آش يقول الميت لغاسله؟ وآش تقول البونية للعين؟

عاد، ماهو عندي صديق عزيز وهو زميل اشتركت معه في عمل منذ أكثر من ثلاثين عاما، قتلني ضحكا (سأفسر لكم وجاهة الضحك) وهو يحذرني بجدية من أن ما أكتبه هنا سيقودني حتما إلى "قضية مؤامرة لتبديل هيئة السلطة"، وأضاف مؤكدا: "حتى في الإذاعة الثقافية أمورك مش باهية، طول النهار وأنت في النقد والأشياء السلبية"، آش جابني لتبديل هئية السلطة؟ لا أنت مش فاهم، أما رد بالك، بيناتنا عشرة لذلك حذرتك،

58 عاما من حياتي لم تكن سهلة وأغلبها كان صراعا من أجل البقاء، وقد تركني أبي رحمه الله وأنا في السادسة من العمر أمام مدرسة عدائية مودعا عند خالته على بعد 14 كم عن بيتنا حيث أكتشفت أن علي أن أغيد يوميا اختراع طريقة غير البكاء الطفولي لفض مشاكلي اليومية من الحنين والغربة المبكرة وعلاج أقفال سروالي التي لا تفتح قبل أن أتبول على نفسي وهي أشياء لا تعالجها سوى أمك بحب عميق، وأن أموت جوعا ولا أقول،

وأنا لا أدري إن كان هذا تقييمه لي مهنيا أو أنه رأي سمعه ممن سيقانهم في ركاب السلطة، أيا كانت الحال، سبب ضحكي هو أنه ذكرني بأيام صعبة في سجن القصرين المدني شهر رمضان عام 1986 وأنا محكوم بخمسة أعوام ونصف من أجل تهمة إحراق بقايا جراية لم أحرقها أصلا في مبيت معهد تاجروين في إطار مظاهرات تلاميذ لا تتوقف، مرحلا من سجن الكاف المدني إلى سجن القصرين، أصلا بقايا الجراية أحرقها تلميذ له اسم طفلة لكنه بعد ذلك هاجر إلى العراق للدراسة ثم قاتل الأمريكيين تحت اسم تنظيم غامض وقتل في عملية تفجير قتلت 9 جنود أمريكيين،

المهم: كان معنا في غرفة المساجين العملة في سجن القصرين رمضان 1986 "ولد عايق" لكنه ذو صوت بدوي رخيم ساحر في الملالية البدوية، أطلق صوته الجبار بعد خواطر شقان الفطر الصعبة، بعد أن تم إغلاق الغرف التي لا تفتح بعدها إلا بإذن الإدارة المركزية من أعماق قلبه في غرفة المساجين العملة "تلوم عليا ازاي يا سيدنا، وخير بلدنا مهوش فى ايدنا، تلوم عليا ازاي يا سيدنا، وخير بلدنا مهوش فى ايدنا، قولي عن اشياء تفيدنا، وبعدها ابقي لوم عليا، اهو ده اللي صار"، اشتعلت غرفة المساجين غرفة العملة حيث يفترض أننا مررنا جميعا بإجراءات التثبت من سلامتنا أمنيا وذهنيا وأغلبنا كان مدعوما من أعوان الدولة خارج السجن، كبرت الحكاية حول ما إذا كان سيدنا هو الرئيس بورقيبة، وشنوه "خيرنا" الذي ليس بإيدينا وآش وصلك ليه أصلا؟ ثم: ماذا تريد أن يقول لك سيدنا؟ وأخيرا: ما الذي صار حتى تغني هذه الأغنية القبيحة وهنا بالذات؟

المضحك: أنا كنت ميتا من التعب في العمل في مصنع النجارة التابع للسجن وكانت أمامي ثلاث سنوات أخرى من اليأس والكآبة وتحمل ما لا يمكن تحمله ولم يكن هناك وضع أسوأ مما أنا فيه وأنا أستيقظ صباحا في سن الواحدة والعشرين من العمر على الأسى والأسر والخصي والخضوع والذل، لكن ليلتها أعجبني الصوت وأعادني إلى مناخات أخرى من الحرية والإبداع، قبل ساعات من إيقافي في مبيت معهد تاجروين في 12 جانفي 1986، جمعني لقاء في أحد الأماكن الخفية في مدينة تاجروين مع منذر الجبابلي رحمه الله، الذي كان يملك أجمل صوت في الشمال الغربي في الخمسين عاما الأخيرة، أنا أيضا كان لي صوت رخيم ورثته من أمي أطال الله عمرها ومن أبي الذي كان مغنيا شهيرا بصوت فحل في أرياف الدير حتى أقاصي أراضي نبر وحدود وادي ملاق.

كنا نمازح منذر رحمه الله بكنية "شمعون"، ولأول مرة لم يطلق صوته الذي يترك لك انطباعا أنه يغني بقلبه أغان بدوية بل فضل أغنية لا يعرفها أحد منا، الناس لا يعرفون أنه يحب أغاني سيد درويش والشيخ إمام، وغنى لنا ليلتها بحزن عميق أغنية "أنا أتوب عن حبك أنا" التي تم تلحينها عام 1962، اكتشفت فيما بعد أنها إعادة ترتيب العلاقة التراتبية في الموسيقى للفنان الشيخ إمام مع أستاذه في أغنية "هو صحيح الهوى غلاب" للشيخ زكريا أحمد الذي أخطأ في قفلة مقام الصبا،

منذر رحمه الله كان يملك قدرة عجيبة على الانتقال من الموسيقى الشرقية إلى المناخات الشاقة في الغناء البدوي التي تتطلب قلبا عاشقا، نور الدين، "أعطيني قلبا قاسيا لمقاومة هذه المناخات؟ ياخي أنا حجرة، زميلي وصديقي الذي لم يعش شيئا من هذه الأيام؟

أنا لم أكن أبدا بطلا ولا زعيما ولا قائد فكرة، وكانت مزاجاتي المتغيرة هي التي تحكمني ولم أفهم إلى اليوم لماذا تورطت في كل تلك المحنة سوى حظي العاثر وقدر أهالي دير الكاف وسركونة خصوصا، بلد الحرية والجنون، لكن، باهي، موجع تحذيرك صديقي بعد أكثر من خمسة وثلاثين عاما ولا أدري إن كنت سآخذه مأخذ الجد، لو نفع التحذير في 1982 وأنا أوزع مناشير يسارية لا أقرأها ضد ملاك الأرض الجدد، لكنت الآن ماذا؟أهم يريدون تذويبنا ونحن نقاتل بآخر الروح،

لكن لنعد إلى خرافنا: "تلوم عليا ازاي يا سيدنا" شكون وراء هذا الفحش والفوضى التي لا تليق بالسجون التونسية وامتيازات غرفة المساجين العملة؟ باهي، الطفل عوده رقيق، غصروه صباح اليوم الموالي بأربعة كفوف بعد إحصاء عدد المرابيط في غرفة العملة، أشار إليّ بإصبعه: "هذا هو إلي علمها لي، يعمل في السياسة" والتفتت إليّ 170 عينا من عيون 85 مسجونا ليس بينهم من اخترق عالمهم غيري: غريب من أرياف الكاف، "طفل بري متوحش لا يكلم أحدا" بلا حيثية غير التصنيف السياسي في ملفات المساجين ولا مبرر لخروجه مع المساجين العملة غير قدرته على تحويل أفكاره الغبية إلى أثاث فني جميل من الخشب تهدى إلى كبار المسؤولين، 85 مسجونا يريدون الخروج اليومي إلى عالم أفضل من البقاء في غرفة السجن، أصدر كبران السنطرة أمره: "تخرج من غادي (في آخر الغرفة، قريبا من بيت مال المسلمين أي الزبالة وبيت الراحة حيث يعيش الفقراء ومن هم بلا حيثية) يي، لا دخان ولا بريكية ولا حزام سروال"، نور الدين يا صاحبي، أش يقول الميت لغاسله؟ ماذا تقول العين للبونية؟ وماذا تقول الضلوع للبروتكان في السيلون وهم يلعبون بي الكرة ليومين؟ وماذا يقول القلب أو العقل أو المخ السجين وأغاني سيد درويش والشيخ إمام في ليالي العزل بلا تبغ والتي لا أعرف متى تنتهي في سجن القصرين؟

لم يكن يوما ولا عشرة وكانت مصة من سيجارة عبر "القيشي" المعدنية في غرفة العزل متعة أزلية؟| كانت أياما بلا عد حقا، عندما يصبح وقوف عصفور على الشباك الصغير في سقف غرفة العزل في الفحر حدثا؟ عندما أكتب على أسمنت غرفة العزل بأظافري "أنا كمال الشارني من دير الكاف، أنا حي هنا، يا الله أنهي كل هذا أو أنهي لأذهب إليك؟"، ومن بعد قرابة أربعين عاما، يأتي من يقول لك: رد بالك، هل سنعود إلى غرفة العزل هناك للكتابة على الجدران بالأضافر؟ في 2023 وبعد كل ما صار؟ بعد أن أيقظنا العالم؟ ل تمسك ضخك السخرية من هذا العالم؟

أي؟ هل يتكرر كل ذلك اليأس؟ أصلا، لماذا يتكرر هذا؟ كان عمري وقتها 21 عاما يا أولاد القحبة؟ (مع اعتذاري للجميع عن الوقاحة)، " بعضكم سيقول بذيئة, لا بأس، أروني موقفا أكثر بذاءة مما نحن فيه؟"، أي، عندنا وضع أكثر بؤسا وبذاءة مما نحن فيه، هو قادم، أوكي صديقي وزميلي العزيز، هو زمنهم وليس زمني، الفارق الوحيد أننا على باب التقاعد من هذه المهنة الكلبة، غير آسف عليها، ربما أقنع رفيقة حياتي التي تحملت بشجاعة حماقات مهنتي منذ أكثر من ربع قرن وكانت أكثر حكمة مني في تربية الأولاد وتحمل مسؤولية البيت، بأن ترافقني إلى العزلة في أرض ريفية نائية بلا كتابة ولا رأي، نربي دجاجات وقططا وكلابا عربية أليفة ونزرع الورد العربي، أقول ربما لأني فشلت في منع اضطرابات مهنة الصحافة من إصابتها لكنها نجحت في منع وصولها إلى الأبناء، بعيدا عن الدولة وقواديها وعن احتمالات أن ينظر أحد ما إليّ ما أكتبه مشيرا "هذا هو"،

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات