ورقات من ماض لم ينته بعد.. (13).. قناة تونس 7.. من نوفمبر

Photo

"قرر أن يكون هذا آخر تعذيب يمارسه نظامه، فقُتلت التماسيح، وفككت غرف التعذيب، حيث كان من الممكن هرس كل العظام الواحد تلو الآخر بدون قتل الضحيّة، وأعلن العفو العام، وشُرع في تهيئة المستقبل بفضل فكرة سحرية: كل مشاكل هذا البلد متأتيّة من أنّ النّاس لهم الكثير من الوقت للتفكير، فوقع البحث عمّا يمكن أن يشغلهم.. رُدّ الاعتبار إلى ألعاب شهر مارس للزّهور، وكذلك للمسابقات السنويّة لملكات الجمال.. وأُسّس أكبر ملعب لكرة القدم في منطقة الكراييب.. وأُجبر فريقنا على تحقيق الشعار التالي: الانتصار أو الموت.. وأعطيت الأوامر لتأسيس مدرسة مجانيّة للكَنْس في كلّ ولاية، دأب طلبتها، وقد حمّستهم التحفيزات الرئاسيّة، على كنس الشوارع بعد أن فرغوا من كنس البيوت، وبعد ذلك الطرق الفرعيّة والأزقّة، بحيث باتت أكداس القمامة تُسحب وتُنقل من ولاية إلى أخرى من دون أن يعرف أحد كيف يمكن التخلص منها.. كانت هذه العمليّة تتمّ في شكل مواكب رسميّة ترفرف فوقها أعلام الوطن ولافتات كبرى: "الله يحفظ أنقى البَشَر، هذا السّاهر على نظافة الأمّة".. في حين كان هذا الفظّ، المنغمس في التّفكير يجر رجليه البطيئتان، باحثا عن أساليب جديدة لإلهاء السكان.. كان يشقّ طريقا بين المجذومين والعميان والمشلولين الذين يتضرّعون عنده حتى يناولهم ملح العافية، مباركا باسمه في نافورة الباحة أولاد محمييّه وسط المتزلّفين الفاقدين للحياء والّذين أعلنوه أوحد.."

غبريال غرسيا مركاز، خريف البطريرك، 1975.
(ترجم المقتطف سعيد الجندوبي)



ثمّ كانت السّهرات التلفزيونيّة التّرفيهيّة اللاّمتناهية، الّتي تتخلّلها عروض الأزياء، والرّقص "الكوريغرافي" لتلامذة مدرسة سهام بلخوجة - المتعاقدة أبديّا مع مؤسسة الإذاعة والتّلفزة التّونسيّة - يقدّمون نفس الرّقصات بكلّ "مهنيّة" وبكلّ روتينيّة؛ فتراهم وراء الشّاب خالد، ووراء فاطمة بوساحة، ووراء حبّوبة، ووراء شكري بوزيّان، ووراء قاسم كافي؛ وتراهم أيضا إلى جانب هالة الرّكبي، وإلى جانب لطفي البحري، نجمان من نجوم تقديم البرامج الاستعراضية الكبرى، وبوقَيْن من أبواق "تونس العهد الجديد".. و"تونس بن علي" كما يحلو لهما نعت خضرائنا..


تلك إذًا "ثقافة العهد الجديد"، الّتي يمكن تلخيص "فلسفتها" في مقولتيْ "ابتسم إنّها تونس" و"تونس تمرح وترقص"! ومن مزايا هذه الثّقافة/الماركيتينق أنّها كانت دوما تسعى إلى ترويج وبيع صورة تونس اليوم: "بلد آمن تغمره السّعادة والفرحة والهدوء والاستقرار".. بلد انقشعت من سمائه كلّ الغيوم، ومن شوارعه وأزقّته ومصانعه وإداراته ومدارسه كلّ خرقة من قماش تُدعى حجاب، وازدهرت فيه تجارة موس الحلاقة.. مشهد جميل وجدّ مطمئن، مقارنة بما كان يجري في محيط تونس القريب والبعيد: الجزائر، ليبيا، يوغسلافيا سابقا، الشرق الأوسط.. والهدف من ترويج هذه الصّورة.. جلب السيّاح ورؤوس الأموال الأجنبيّة، "البيضاء" منها والمرشّحة إلى التّبييض.. ويسمّى هذا "دخول إلى عصر العولمة"!


ولو شاهدتَ - أو غصبت نفسك على مشاهدة - إحدى مُنتَجات "العهد الجديد" الثّقافيّة، لاستنتجت أنّ "فلسفتها" تقوم على الإدراج القصري لثنائيّة الأصالة والحداثة، في كلّ صغيرة وكبيرة.. في محلّ – وغالبا - في غير محلّ..

فمثلا "نوبة" و"حضره" - عرضان ضخمان - لعب فيهما رجل "المسرح الجديد"1 الفاضل الجزيري دور "المايسترو" قائد الفرقة السّنفونيّة (أتخيّل هنا قرامشي، صاحب نظريّة المثقّف العضوي يتقلّب في قبره لما آلت إليه نظريّته!) وهو الذي لا يجيد قراءة سلّم موسيقي على مفتاح الصّول، يسيّر، كمن "يُعَصِّدْ", خلطة عجيبة وغير متجانسة - فضلا عن أن تكون متناغمة - من الأصوات ومن الآلات الموسيقيّة: مِزْوِد، كمان، طبلة، بيانو، زُكرة، قيثارة كهربائيّة، دربوكة.. وطبعا بِنْدير! أضف إلى هذا خليط أعجب، من الأصوات: إسماعيل الحطّاب، لطفي بوشناق، صلاح مصباح، الهادي الدّنيا، وفاطمة بن عيّاد - صوتا وجسدا - إنّها عمليّة توليد قيْصَرية لجنين هجين (hybride) تحت تهاليل وزغاريد، زادتها نشوة وهيجانا بعض جُرَع من "السلتيا" وشطحات صوفيّة واضحة التّمويه لشباب مصفوفي الشّعر تحت وطأة "القومينه" ولشاباّت – لا أنكر جمالهنّ: تلامذة مدرسة سهام بلخوجة.. طبعا! الكلّ - في ما عدى المايسترو- في زيّ تقليدي أصيل!


النّتيجة: مهرجان للرداءة الوطنيّة2 .. أمتدّ لعقد ونصف: ولا يزال!


1 لقد عاش المسرح التّونسي طفرة نوعيّة بين منتصف السّبعينات ومنتصف الثّمانينات, فأفرز إنتاجات مجدّدة في أشكالها وكذلك في مضامينها؛ أذكر منها مسرحيّة "غسّالة النّوادر" للمسرح الجديد, "تمثيل كلام" لمسرح فو ومسرحيّات أخرى لمجموعة المسرح العضوي… شكّلت هذه الأعمال قطيعة مع ما سبقها من الإنتاج المسرحي "الكلاسيكي" والّذي لا يقلّ عنها نجاحا كأعمال فرقة الكاف وفرقة المغرب العربي للتّمثيل -"أهل الهوى", "الكرّيطة", "القافزون"-, فرقة قفصة -"عمّار بوزورّ", "أبو القاسم الشّابي", "صلاح الدّين"- كلّ هذه الإبداعات أتى عليها حريق العهد الجديد "وَهُمْ نَائِمون فَأَضْحَتْ كَالصَّرِيم"..

2Un festival du mauvais goût

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات