ذلّ الحصر وأقدار البشر

Photo

لا تخلو حياة الإنسان ودنياه من صعوبات وأزمات وعراقيل وعقبات ومصائب إلى جانب أن البشريّة تجتاحها أحيانا كوارثا طبيعيّة تقلق راحة النّاس وتؤلمهم وتحيلهم إلى وضعيّة مشكل وأزمة خانقة ضاغطة. فكيف يتصرّف الإنسان تجاه وضعه الصعب؟ وكيف يواجه مصيره وأقداره؟

يتعرّض الإنسان وجوبا في صيرورته وتاريخه إلى ظروف صعبة حرجة وأزمات عديدة وضغوطات نفسيّة ماديّة وعاطفيّة إذ لا غنى عنها ولا مهرب لتجعل حياته حينئذ منحصرة في زاوية الظرف الضاغط والقاهر لذاته الضعيفة العاجزة نسبيّا أمام شتّى البلايا والرزايا وكما تواجه الإنسانيّة الثالوث المدمّر المنهك لقواها الفقر والجهل والمرض.

فتختلف ردود أفعال كل إنسان وإستجابته إزاء وضعه الرّاهن الضاغط وما ألمّت به من ملمّات. فكلّ حسب إستعداده وفكره وعلمه وخبرته وطاقة صبره وقدرته على إستيعاب ظروفه والتكيّف والتجاوز يواجه مصيره وأقداره فيخيب من يخيب ويوفّق من أحسن التفكير والتصرّف ليتجاوز ويعبر بإقتدار المحنة.

إنّ الضغوطات والأزمات والقيود والعراقيل والعقبات التّي تعيق الإنسان وتقلقه وتؤلمه ظرفيّة ولحظيّة لا بقاء لها ولا ديمومة لها، إذ أنها آنيّة كظلمة الليل الدّاحس الذي يعقبه النّهار المشرق وكمرور السّحاب العابر، ولكن قلّة صبرالإنسان بصفة عامة وجهله تجعل من الأزمة أوالمشكلة قارة مستقرة ثابتة في فكره ومنغرزة في وجدانه لتفقده صوابه وتصرّفه السليم الحكيم فتراه يهذي ويشتكي ويتألّم فيزيد بذلك من صعوبة الموقف وتأبيد وضعه الراهن الضاغط.

لا التخبّط والشكوى وكثرة الكلام والقلق والضجر والتأثّر الكلّي والإنفعال المفرط والتسرّع يمثّل الحلّ الأمثل وإيجابية للتعامل مع المشكل والصعوبات. متى إنحصر فكر الإنسان ووجدانه في دائرة الأزمة وأنشغل تفكيره بوقع المصيبة دون أدنى تراجع أو إنكفاء ودون رؤية نقديّة وأيضا متى نظر نظرة سلبيّة لإنعكاسها وإرتدادها عليه أعاق فعله الواعي بضاببية فكره وتفكيره وغشاوة بصيرته وكثرة هذيانه فلا يثبت أمام تصرّفات القدر.

فكم من كارثة أو أزمة أو مصيبة عائليّة أو إجتماعيّة أوعالميّة قيل فيها ما قيل إذ تتالى التّحاليل ويتسارع اللافظون حينها للتّعبير من منطلق إطارهم التّفسيري ومدلولاتهم وعملياتهم الذهنيّة في حدود مفاهيمهم فيزيدون النّاس رهقا وضغطا نفسيّا ومعنويّا سالبين سعادتهم وأريحيتهم وسلامهم الدّاخلي , ولكن بعد مدّة تمرّ الأزمة كسابقتها ضمن شروط وظروف إشتغالها في الواقع ويبقى هذيان هؤلاء الدهمائيون الحمقى شاهدا على خورهم وجهلهم بالوقائع والأحداث وحركة التاريخ وجدليته ليتبيّن للعامة ضآلة وضعف مواقفهم المتسرّعة لإنهم يرتمون ويتهافتون صرعى الأحداث والوقائع كأعجاز نخل خاوية أولئك الخشب المسنّدة فهم لا يقولون خيرا ولا يصمتون .

إنّ إرتباط الإنسان بماديّته وعالمه الحسيّ لا يسمح له بالإفلات والفكاك من قيود وضغوطات ظروف وشروط حياته الماديّة والمعنويّة إذ أنّه في ذلّ الحصر. (فالدّنيا صفوتها ممزوجة بكدورة وراحتها مقرونة بعناء)، والكيّس الفطن من يستوعب ظروفه ويسعى لتجاوز دائرة الحصر فيتعالى على الظرف الضاغط بمعالجة الأسباب والمسبّبات ويدرس الشروط الموضوعية وإمكانياته الذاتية خارج إطار الوهم وسوء الفهم ويستشرف المستقبل بثقة في النفس وبهمّة عالية وقوة إرادة ورجاحة عقل.

فسودويّة الرؤية وسلبيتها وحالة السكون والضجر والملل والقلق لعامة البشر معطّلة للفعل مثبّطة للهمّة والعزيمة والإرادة الحرّة والتصرف الحكيم. إذ لا فعل واع وبحث لإيجاد حلول عمليّة لتجاوز المصائب والأزمات والكوارث دون إدراك وعلم وإلمام بدائرة الحصر والضغط والسلب والقيود والمعوقات والأسباب. فالأزمة أو المصيبة أو البلوى فرصة للتفكّر والتدبّر والتجاوز والإعتبار لأنها حاملة لمعنى من معاني الحياة فليست بالضرورة عدميّة المنشأ نقمة لوجود البشر.

فكم من البشر يكثر هذيانه وتشكيّاته وضجره وألمه وملله عند مواجهة صعوبة ظروف حياته وأزماته، ومنهم من يسبح في تخميناته ويحلّق مع أوهامه ليلقي اللّوم على غيره لتحميله ما آلت إليه أوضاعه الصعبة المعقّدة فلا يعتبر نفسه جزء من المشكل ولا مصدرا للحلّ. ولكن قليل من البشر من يفكّر في الحلّ والعبور إلى الخلاص بعقل المعنى التّجريدي المتعالي المتجاوز للظرف لا عقل الحسّ والغبش المتماهي أصلا المنصهر في صميم المشكل والبلوى.

إنّ الأزمات والبلايا والمصائب معجونة بطينة الإنسان ودائرة حسّه ووجدانه فهي ضمن أقداره. فالدنيا (حالان شدّة ورخاء وسجالان نعمة وبلاء) ولا مناص ولا خلاص إلاّ بالتجاوز بإلإيمان والصبر والعلم والفقه في أحوال المنازلات . الأزمة جسر عبور إلى غدّ أفضل " والفتى الحاذق الأريب إذا ما خانه دهر لم يخنه عزاء " كما قال الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات