باطنها عبرة وظاهرها غرّة

Photo

يخرج الإنسان إلى الدّنيا باكيّا ومن حوله فرحون ضاحكون مستبشرون بقدومه ويفارق دنياه جثّة هامدة لا حراك ومن حوله باكون حزانى لفراقه فهل سيضحك حين تبكيه البواكي؟ يولد فردا واحدا كينونة مستقلّة بذاتها ويغادر حياته الدّنيا فردا واحدا لتنقطع علائقه وعلاقاته ليلقى مصيره وحيدا لا أنيس ولا رفيق لا يحمل معه إلا عمله الصالح ومعاني عبوديته للّه فإن كان قد وُفِق في نحت معالمها بإخلاص وصدق فرح وسعد في حياته البرزخيّة وإن خاب وضيّع أمانته حزن وندم.

الدّنيا دار شقاء وبلاء وفناء وليست دار سعادة وهناء وبقاء لمن خبر حقيقتها ومعناها . عاش فيها أهلنا وأحبابنا الذّين فارقونا وبقيت ذكراهم في القلوب راسخة وقد غيّب الموت أجسامهم وخيالهم ومُحِي إسمهم ورسمهم من الوجود الدنيوي كأنهم ما عاشوا وقد كانوا بالأمس القريب معنا وغدا نكون معهم في مثوانا الأخير. الموت حقّ وليس لحيّ منه مفر .

الحياة الدّنيا تتوارثها الأجيال جيل بعد جيل يرث اللاحق السّابق ينال كل جيل فرصته وحظّه وتتالى الايّام والليالي والأحداث بحلوّها ومرّها وينسخ الزّمن الحاضر الماضي. يتعجّل فيها الإنسان مستقبله الآتي وغده بآماله وأحلامه وطموحاته تحيط به كثائف الدّنيا وغشاوتها وشواغلها فتغتال إنتباهه ونباهته فلا يتفطّن لباطن عبرتها وحقيقتها لتدوم غفلته إلاّ ما رحم اللّه من عباده وهداهم إلى صراطه المستقيم فهي سلبا للأعمار وتقريبا للآجال ومزرعة الأعمال.

فمن إذن يحرث لآخرته ويكون حقيقة لنبيّه وارث ؟ فالدّنيا قضاء اللّه وقدره تكليفا للإنسان وأمانة وإبتلاء . الأقدار والمحن تحيط به ولا يحيط علم الإنسان إلاّ بالنزر القليل منها ويجد نفسه عاجزا في محطات عديدة تعترضه أزمات وصعوبات وقضاءا وقدرا محتوما من اللّه الجبّار لتعمّق إحساسه بالعجز وتُعْدِم غروره وتُعرّفُه قدره وحجمه الحقيقي.

فإن تأمّل ببصيرته حياته وصيرورته وتمهّل أمكن له أن يفهم ويُدرك الحقيقة والمعنى من الوجود فهو لا يعلم ماذا سيكسب غدا ولا يعلم بأيّ أرض يموت ومتى يموت ومن يمشي في جنازته ومن يقبره ؟ يجهل الإنسان الغيب ويعيش في عالم الشّهادة غافلا ساهيا عن المعاني الحقيقية للوجود فما عاشه إنجلى غيبه عنه وكُشِف سرّه وما خُفِي عنه من مستقبله وغدّه سوف يُكْشَف أمره وتظهر حقيقته من بعد .

فالأجل محدود والعمر معدود والرزق مكتوب والسّعي موجود بحوله وقوّته وإرادته ومشيئة اللّه وعلمه فيه منذ الأزل. لقد غُيِبَ الغيب عن الإنسان رحمة وحكمة من اللّه العزيز الحميد أمّا عالم الشّهادة فهو على مرمى بصره ومتاح لأعضائه الحسيّة يشاهد يراقب يتذوّق يتلمّس يتحسّس يتفاعل وينفعل في بيئته ومحيطه وفي مدار الأسباب والتعلّقات .

غريب أمر الإنسان مجهول مصيره ومآله لا يعرف خاتمته تتقاذفه أمواج البلايا وسهام الأقدار وهو متوثّب عاشق للدنيا. فهل تستوي مركبته وتستقرّ ببرّ الآمان والإطمئنان والتّوازن والإتّزان؟ إنّ الدّنيا التّي يتزاحم ويتنافس عليها عامة البشر ويتحاسدون ويتباغضون ويتدابرون ويتخاصمون فيها ويتقاتلون من أجل نيل حظوظها هي حانوت إبليس اللّعين بضاعته وتجارته ومدار غوايته وأريحيته وحريّته وفرصته ومجال نظرته فهو " من المنظرين إلى الوقت المعلوم ".

فلا يمكن أن تكون للصالحين من عباد الله موطنا فهم معها بالمزايلة والمفارقة لم تسحر أعينهم بزينتها وبهجتها ولم تستولى على قلوبهم ولا على عقولهم ولا على نفوسهم هجروها وطلّقوها طلاق لا رجعة فيه فهي عندهم باطلة ساقطة caduque وزائلة فانيّة .فلا حظوظ دنيوية لهم ولا طمع ولا جشع بل ورع وتقوى مسارهم مناقض تماما لعدوّ اللّه إبليس اللّعين فلقد اتخذوا الدّنيا لجّة وجدّفوا فيها بالأعمال الصالحة إحترفوا واتقنوا حرفة العبودية للّه وحده وأخلصوا صادقين منبين ورعين فهم بنور اللّه وحوله وقوّته سائرون وإلى حضرته متّجهون قدّس اللّه سرّهم ورضي اللّه عنهم ورضوا عنه. فمتى يستفيق الإنسان من خدر وغرور الدّنيا وسمّها الزعاف؟

ليتحقّق من باطن عبرتها ولا يغترّ بظاهرها ويستعدّ للرحيل فكل آت قريب والروح وديعة وسوف تسلب. من لم تسقط الدّنيا من عينه لم يرتسخ الإيمان في قلبه ومن تعلّق بالأسباب ونسي رب العباد إنحرف عن مسار عبوديته ومن عمّر دنياه بخراب آخرته فقد حُرِم سفر الباطن ورحل بدون عدّةٍ والطريق مخوف مخوف. إن الداء العويص الذي يصيب الإنسان الغفلة ينتبه منها برهة ولحظات ليرجعه النسيان إلى دائرتها وبؤرتها ولذلك فدليله وبيانه وتذكيره بالقرآن لما فيه من ذكرى وعبرة .

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات