توحي تغريدة الكلب المسعور التي أعلن فيها عن قصف القاذفات الأمريكية للمواقع النووية الإيرانية الثلاثة أن أمريكا أنجزت الجانب المستعصي على الكيان من المهمة، على أن تتواصل الحرب بالذراع الصهيونية القاتلة لقوة الشر العظمى.
لم يطلب جيش قتلة الأطفال تدخلا أمريكيا، بل كان الطلب العلني والواضح الذي قدمه قائد أركان جيش القتلة زامير هو أن تقوم أمريكا بقصف المواقع الحصينة وخاصة موقع فوردو، وهو نفس الكلام الذي ردده المستشار الألماني في تصريحه عن العمل القذر الذي يقوم به الكيان نيابة عن الغرب، حيث أشار إلى أن جيش القتلة لا يملك إمكانيات تدمير تلك المواقع.
هل سينهي هذا القصف الحرب؟ الأرجح أنها ستستمر لمزيد من الوقت دون تدخل مباشر للقوات الأمريكية، ويأمل ترامب، حسب ما توحي به تغريدته، بأن يسارع الإيرانيون إلى قبول الصيغة الأمريكية لاتفاق جديد لإنهاء عملية تدمير القدرات العسكرية الإيرانية التي ينفذها الكيان.
خطة لنزع السلاح
ما تريده أمريكا ليس تفكيك البرنامج النووي الإيراني بل جعل إيران دولة منزوعة السلاح، وهذا الهدف يشمل كل دول المنطقة دون استثناء.
تجعل أمريكا دولة منزوعة السلاح من خلال:
1 منعها من بناء صناعة عسكرية تسمح لها بضمان حاجاتها الدفاعية أو القسم الأكبر منها.
2 منع حيازة الدولة أسلحة يمكن استعمالها خارج الحدود بشكل مؤثر.
3 منع تشكل جيوش مقاتلة، وتحويل الجيوش إلى أجهزة لحفظ النظام، أي جيوش بمهام أجهزة الشرطة.
عملية نزع السلاح بدأت في العراق بقرار حل الجيش العراقي، ثم تدمير قدرات المقاومة اللبنانية وصولا إلى القضاء بشكل نهائي على القوة العسكرية السورية، فماذا بقي في المنطقة؟ بقيت إيران التي يسعى الأمريكان إلى نزع سلاحها بتفكيك البرنامج الصاروخي الإيراني، وإذا هاجمت أمريكا إيران بشكل مباشر فإن تدمير الصناعة العسكرية الإيرانية سيكون الهدف الأهم.
من المهم التذكير بأن الدول الخليجية الست والأردن هي دول منزوعة السلاح بالفعل، أما مصر فيصنف الأمريكيون جيشها ضمن ما يعرف بالجيوش غير المقاتلة.
الدول المعنية بهذه الخطة هي جميع الدول التي تدخل ضمن ما تسميه كتابة الدولة الأمريكية الشرق الأوسط وهي المنطقة الممتدة من المغرب الأقصى غربا إلى أفغانستان شرقا، ومن المؤكد أن التعامل يتم بشكل تدريجي وبحسب ما تفرضه تطورات الأحداث وسلوك الدولة.
الهدف في النهاية هو جعل الكيان الصهيوني مركز تحالف إقليمي يحتكر فيه الكيان القوة العسكرية والتقنية العالية، ويتولى الآخرون المهام الدنيا، وهذا يوفر لأمريكا ميزتين؛ التفرغ للمواجهة مع الصين بعد ضمان هيمنة الكيان على الإقليم، وتحول الإقليم إلى قاعدة إسناد لأمريكا في معركة الهيمنة على النظام العالمي في مواجهة الصين الصاعدة.
الطوفان عطل هذا المشروع وأفسد الحسابات، والعدوان على إيران قد يخلط الأوراق. لهذه الأسباب يهمنا ما يحدث اليوم لأنه يمس أمننا القومي بصفة مباشرة.
الحياد في زمن العدوان
عندما اجتاح صدام حسين الكويت في فجر الثاني من أوت 1990 كان موقف جبهة الإنقاذ سريعا وصريحا؛ التنديد بالاجتياح والتذكير بمثالب الرئيس العراقي صدام حسين التي تجعله أقرب إلى الكفر منه إلى الإيمان، لكن الشارع الهادر كان له موقف آخر تماما، فقد انحاز إلى جانب العراق وغطى شعار "صدام حسين شيكور الماريكان" على كل صوت آخر.
الشعار كان فجا وبذيئا في نظر من كانوا يمارسون السياسة يومها، لكن قادة الإنقاذ وعلى رأسهم عباسي مدني سرعان ما ضبطوا لحنهم على إيقاع الشارع، وانتهى الأمر بانحياز كامل إلى جانب العراق ورئيسه، وذهب عباسي مدني وعلي بن حاج إلى بغداد وتم استقبالهما من قبل صدام حسين، وقد قال بن حاج بعد اللقاء إنهم تعرضوا للتضليل عندما قيل لهم إن صدام طاغية يعيش في أنفاق تحت الأرض وقد وجدوا شخصا مغايرا عندما قابلوه، وبعدها كتب علي بن حاج مقالته الشهيرة في المنقذ تحت عنوان " القول الصريح في معتقد الشيعة الطريح"، لم تكن المقالة مجرد محاججة في مسائل العقيدة بل جزء من نصرة سياسية للعراق في ذلك الحين.
لقد كانت بوصلة الشارع دقيقة في تحديد العدو ومصدر الخطر، وتحول التركيز على أمريكا وسنة 2003 اتضح أن الأمر أبعد كثيرا من مسألة اجتياح العراق.
تكاد تقف إيران اليوم في نفس الوضع الذي كان فيه العراق قبل ثلاثة عقود ونصف، لكنها تواجه الكيان الصهيوني أولا رغم علم الجميع بأن محرك العدوان هو أمريكا، ورغم أن الرد الإيراني على العدوان الصهيوني هو الأكثر إيلاما منذ قيامه فإن انقساما حادا حول الموقف من إيران يمكن تلمسه فيما ينشر عبر منصات التواصل الاجتماعي، ولا يمكن إنكار أن الفتنة الطائفية التي تم إذكاؤها بشكل غير مسبوق منذ سقوط بغداد سنة 2003 حفرت خنادق عميقة في مجتمعنا وفرضت استقطابا حادا سيجعلنا أكثر هشاشة في مواجهة أي خطر في المستقبل.
الأسوأ من هذا كله أن قسما من "النخبة"، وخاصة تلك التي وضعتها السلمية في الواجهة، بدت فاقدة للشجاعة في اتخاذ موقف واضح من هذه التطورات الخطيرة التي سيكون لها أثر مباشر على أمننا القومي، ويعبر اختيار الصمت عن موقف بائس يؤثر أصحابه السلامة على تحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية التي يفرضها الظرف الخطير.
صحيح أن لا أحد يجرؤ على الوقوف إلى جانب الكيان الصهيوني علنا، لكن صمت البعض بمبرر الدفاع عن عقيدة ورفض الاصطفاف مع من "يسبون الصحابة"، وصمت البعض الآخر بحجة الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان ورفض نصرة نظام "تيوقراطي"، يضع جميع هؤلاء في خندق واحد مع من امر بالعدوان ومن ينفذه.
يستمر الطوفان العظيم وتداعياته في كشف نقاط ضعفنا وهشاشتنا، ويواصل عملية فرز تاريخية سترسم طريقنا نحو الحرية والكرامة.