الإبادة وإنسانيتنا المهدورة

خطيب الجمعة في مسجد الحي أراد أن يتحدث عن الإبادة بالتجويع في غزة فضاعت منه الكلمات وخنقته العبرة وأبكى الناس الذين شعروا بقهر شديد.

هذه المحنة العظيمة درس لنا جميعا؛ المجتمعات في بلاد العرب والمسلمين لم تخذل غزة لأن الحس الإنساني لديها تبلد، فهي تهتم حقيقة بما يجري وتتابعه عن كثب، وهناك فئة تجتهد في المساعدة والتضامن، لكن فاعليتها ضعيفة لأنها مشتتة وغير منظمة، وكلما أرادت أن تظهر تضامنها اصطدمت بالسلطة التي تقول إنها أدرى بمصلحة الأمة وهي وحدها تملك حق تحديد سقف التضامن مع غزة وأشكاله.

يشعر الناس بالقهر لحرمانهم من إظهار تعاطفهم بشكل جماعي لأن ذلك وحده يثبت وجودهم وحياتهم كأمة حاملة لقيم ومدافعة عنها، ومن هنا كانت المظاهرات متنفسا لدى كل رافضي هذه المحرقة التي لا مثيل لها في التاريخ الحديث.

في الغرب حيث يتصاعد التضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة باتت المظاهرات دليلا على حدود الديمقراطية الغربية، ومع مرور الوقت أصبح السؤال المطروح: لماذا يتحول الرأي العام ويبقى موقف الحكومات ثابتا على الدعم اللامشروط لكيان يرتكب الإبادة والتطهير العرقي؟ وهذا نقاش متقدم جدا على ما يحدث في الدول التي تعتبر نفسها معنية أكثر من غيرها بقضية فلسطين لأنها مصنفة عربية وإسلامية.

في المغرب خرجت مظاهرات حاشدة تضامنا مع غزة وتنديدا بالتطبيع، لكن الحكم ماض في التطبيع ويفتح الموانئ أمام السفن التي تحمل السلاح للكيان بعد أن أغلقت دونها موانئ إسبانيا، ويستضيف مجرمي جيش قتلة الأطفال في ذروة الإبادة.

في الجزائر التظاهر تضامنا مع غزة ممنوع لأن السلطة تعتقد أنها تنوب عن الشعب ويكفي موقفها في مجلس الأمن الدولي.

أما في مصر فالتضامن مع غزة صار شبهة وقد يجلب لصاحبه تهمة الإرهاب، وهناك يكون الشعور بالقهر مضاعفا باعتبار أن المقتلة تحدث على الحدود المصرية دون أن تجرؤ القاهرة حتى على طرد السفير الصهيوني أو قطع العلاقات.

تعلمنا محنة الإبادة درسا قاسيا؛ بيننا وبين إثبات إنسانيتا ووجودنا كأمة حية جديرة بالاحترام عائق كبير هو أنظمة الحكم التي تلغي صوتنا وتنكر رشدنا، وهي بذلك تمحي وجودنا وتجعلنا مجرد تجمعات لمسوخ بلا هوية أو قيم.

الذين يعظمون شأن الحرية والاحتكام إلى إرادة الشعب قد يكونون أقلية، ويحصل أن يؤثر الناس الخبز والسلامة على دعوات بناء دولة الحق والقانون، ومنهم من يجد المبررات للاستبداد، لكن الشعور بهدر الإنسانية والكرامة فضلا عن خذلان المبادئ المعلومة التي هي المصدر الأخير للفخر، يولد شعورا مخيفا بالضياع.

إن لهذه الإبادة ثمنا باهظا سندفعه جميعا ولن ننجو إلا باستيعاب هذا الدرس القاسي والنهوض بما يترتب عليه.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات