حول "خارطة الطريق للستة أشهر القادمة".

Photo

استأثرت مداخلة رئيس الحكومة البارحة باهتمام جزء من التونسيين. وإذْ أن حرية التعليق أو النقد واقرارهما من المعنيين بهما في الديموقراطيات يُمثلان الحدّ الأدنى من شروط ترسيخها، فان هذه المداخلة تضمنت اختلالات منهجية وفي المضمون.

اختلالات اختزلت تراكمَ الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية التي لم ينلها من الاهتمام إلا التأجيل أو المعالجة الجزئية لفائدة الاستجابة لأحداث وتوازنات سياسية متسارعة. قد يكون ذلك ناتجا عن ضعف القدرات المؤسسية الحالية، ولكن يعكس في نفس الوقت جملة من الاولويات السياسية للفريق الحاكم وطريقة تصوراته في ادارة المرحلة الانتقالية.

والأمر البديهي هو أنّ عملية الاتصال السياسي تصبح سهلةً وأكثر سلاسةً بقدر ما كانت الإنجازات مُتعددةً والخطاب مُعقلنا ودقيقا. اذْ استهلّت المداخلة التي دامت طويلا، أي ربع ساعة بأكملها في ذروة مشاهدة عالية، التذكير بــ "الإنجازات" واستعمال المفردات السياسية ومحورتها حول رئيس الحكومة وتظلمه من الخصوم السياسيين وتبرُّئِه من خوض حملة انتخابية سابقة لأوانها، حتى وان كان ذلك من خلال معلومات غير دقيقة، وقراءة انتقائية للواقع الاقتصادي واستعمال ألفاظ غير معهودة في دوائر الدّولة، مثل "تمسْ السيستام، يضربك الضّوْ"،

وفيما يلي بعض الملاحظات الموجزة حول "خارطة الطريق" المُعلنة:

أ) قراءة انتقائية للواقع الاقتصادي:

1. معلومات غير دقيقة، مثل "خسارة البنك المركزي لنصف المخزون من العملة الأجنبية’’، أو "سيتحسن الاقتصاد في أفق 2020"!

2. معلومات منقوصة، مثل الاقتصار على نسبة النمو لسنة 2018 ومقارنتها بسنة 2016، في حين ان نسبة البطالة وعدم استدامة العجز العام الداخلي والخارجي ونسبة التضخم وتدهور الدينار وتدني أداء المؤسسات العمومية، كلها مؤشرات لا تعكس التحدّيات بقدر ما تعكس غياب السياسات الاقتصادية –بالمفهوم المعروف- في الخطاب الرسمي وفي قوانين المالية.

3. معلومات مجانبة للواقع، مثل "مْشاكلْ البلادْ تتحلْ بالكفاءاتْ" في حين أنّ نسبة الكفاءات أو ملاءمتها لمهامها في الحكومة ضئيلة جدا.

4. معلومات ترويجية، مثل "عدم رضوخ الحكومة للضغوطات"، في حين انّ الاتفاق المبرم مؤخرا مع اتحاد الشغل والمتضمن لزيادات غير مُبرمجة في قانون المالية جاء إثر إضرابات! ولا يخفى على المختصين أن السلطة القائمة تقوم بدور إعادة توزيع الريع وتربط ذلك بالدورات الانتخابية.

5. معلومات غير واقعية، بالقول ان " رئيس الحْكومه موش في أجندا متاع حمله انتخابيه". فهذا يخضع لادراك المواطن ووعيه ولا يحتاج الاعلان عنه، بل أُنهىَ الخطاب بكلمة "تحيا تونس" التي تختزل دلالات عديدة ذات الكنية الترويجية لحزب رئيس الحكومة.

6. معلومات مُضخمة، مثل الحرب على الفساد "بالقوانين". في حين أن القوانين الموجودة وحالة الطوارئ في البلاد وتقرير المرحوم عبد الفتاح عمر كافية للقبض مباشرة على اغلب الفاسدين والتحقيق معهم..

7. قراءة جزئية لتحشُن الظروف الأمنية، التي اقتصرت على انخفاض عدد العمليات الإرهابية، في حين أن المواطن عند خروجه من بيته وعند عودته من العمل أو المدرسة، لا يأمن لا على ماله ولا جسده ولا أخلاقه. وكان تقلص الامن هذا يزداد يوما بعد يوم.

ب) التركيز على الرد على الخصوم السياسيين:

اعتمادا على 15دقيقة الأخيرة، تمّ الحديثُ عن "خارطة الطريق" من الدقيقة 1.40 إلى الدقيقة 6.38، أي حوالي 4.58د بما يعادل ثُلث الوقت فقط، والباقي خارج الموضوع المُعلن لأنه خُصّص للرد على الخصوم السياسيين والاستياء من النقد السياسي وكأنه مُحرّم في الديموقراطيات! ثم تضمنّت الــ 4.58د الإعلان عن المشاريع الماضية وبرنامج "احميني" والعودة المدرسية وإصلاح الصناديق والاعتزاز بذلك! في حين أنّ هذا الإصلاح، مع إصلاحات أخرى، قد بدأت منذ عام 2013 ولا يعني أنها حققت أهدافها مثلما هو مُضمّن في الحديث، لأنه لا يمكن تقييمه قبل استكماله !!

ت) حول منهجية المداخلة:

تم الحديث على "خارطة الطريق" بدون تفصيل وبدون منهجية وبدون توزيع في الزمن للخطتها التشغيلية. فقد اقتصرت هذه "الخارطة" على اهداف تقليدية لأي فريق حاكم من المفروض أن يتابع الظرفية الاقتصادية وأن يتدخل لتعديل الأسواق وتطبيق القانون قبل وأثناء الحملة الانتخابية.

وإذا كان المشكل هو "تحسين المؤشرات لتتحسن حالة التونسي" فهذا مجانب للصواب في التعامل مع المؤشرات الاقتصادية. فالعكس هو الاصوب، لان تحسين المؤشر كما تعنيه كلمة مؤشِّر، مهما كانت وجاهتُه لا يمكن ان يختزل الواقع، والاّ أصبح هدفا في حد ذاته حتى وان انحرف عن الواقع.

فيمكن ان تُخفِّض من درجة الحرارة في المحرار بدون أن يشفى المريض. السيطرة على التضخم تعني انخفاضَ وتيرة ارتفاع اغلب الأسعار (بأوزانها) من خلال آليات السوق وبالتعديل المستمر وبالتنسيق المؤسّسي مع البنك المركزي وبتوفير الإنتاج بسياسات قطاعية و"صناعية"، وبإرساء نظام الصرف المناسب، وسياسات تجارية مُمنهجة وبتأطير توقعات المستهلكين والمنتجين حول المستقبل …

وكذلك الشأن بالنسبة الى "تحسين مؤشرات مناخ الاستثمار"، كلها غابت في الحديث وفي التفكير وفي التصورات وفي البرامج وفي التخطيط لكل الفرق الحاكمة خلال السنوات الاخيرة. واللافت حقيقةً هو الإعلان أنّ "التضخم سينخفض" بدون الإعلان عن كيفية ذلك: ما هذا التعسّف على مستقبل غير مؤكّد، بل على المناهج العلمية في ميدان التقديرات والتوقعات.

ج) الحل ليس الحوارات التشاركية

(…)

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات