أعذرك كثيراً فاعذرني أحياناً

أحياناً أعذرك يا سيدي، لا لأنك تعرف من أين تؤكل الكتف في زمن كلّ أبطاله من أكلة الكتف، لكنْ لأنك واحد لا أحد ممن جاءته فتنة الدنيا منذ ولدت على طبق من فضة، فكيف لك أن تؤمن بحكمة من جدّ وجدّ ومَن سار على الدرب وصل، وأنت - إن لم تصل إليك الدروب صاغرة- جعلتها زحاليق فما عرفت يوماً حتى معنى الحلم؛ لأنك تعيش ما فوق الأحلام، فكيف تؤمن أن لغيرك حقّاً بمائدة الدنيا التي تظنّ أن لا طاولة غير طاولتك تليق بها…

وأعذرك أحياناً يا سيدي، لا لأنك تظنّ كلّ ترابك ذهباً وذهب غيرك تراباً ، لكن لأنك واحد لا أحد ممن تعلّمَ أنّ الحق لك في أن تُجزَى على ما تُقدِّمُ ومالا تُقدِّمُ، لأنك ابن أبيك الذي لا أب له غير اقتناص حقوق الآخرين، أعذرك لأنك تعلمتَ أنّ العلاقات العامة هي منتهى العلم، وأنّ خزانة ثقافتك كرسيُّكَ الذي جئتَه في غفلة من الضمير، فبَلِيَ وما بَليتَ، فكيف تؤمن بخبرة غيرك، وبعلمٍ تجاوز شهادتك التي حُزتها في أوقات فراغك فوقف العلم عندها!؟

وأعذرك كلّ الأحيان يا سيدي أن تعتزَّ بصعلتك التي كانت سبب سيادتك، وتلك لم تكن طرفة يا سيدي وإن كنت الطُّرَفَ كلَّها، فقد ظنّ أحدُ أرباب نعمتك أنه يمزحُ، وكان يهذرُ، ولأنَّ هذرَه حكمٌ وأمثالُ وأوامرٌ عند حاشيته قال: صاحبُ ذلك المقام سيكون أصلع، فنشروا الشائعة، وراح زملاؤك الذين لم ينعم عليهم الله بصلعة، أو الذين لم يخطر ببالهم أن تكون الصلعة كفاءة في نظر رعاتهم.

وكانوا يبحثون بالسراج والفتيلة عن طبٍّ لإنبات شعر صلعاتهم، لأن سكرتيراتهم كانت تتأفف منهم وكانوا يظنون أنهن الأدرى بدفتر شروط المقامات، وأنهن الصندوق الأسود لأسرار السيادة، حينها كنت تعتز بنعمة الصلعة وتمسِّدها بكبرياء بينما زملاؤك راحوا ينتفون شعرهم ليصلعوا فيكونوا من المرشحين للمقام، فكيف تؤمن يا سيدي أنك لست الأكفأ لأن تكون الواحد الأحد إذا ما انتدبوا واحداً رجلاً من العرب قاطبةً لرئيس بلدية مونت كارلو، أو مدير الزراعة في البحر الميت، أو رئيس استديو سوبر ستار العرب، أو مقدم برنامج مَن ربح المليون، أو رئيس نقابة شاربي المتة، فأنت تصلح -لأنك أصلع- لكل شيء.. مديراً لمنظمة اليونيسكو الإقليمية لأن كل الأقلام تكتب على صلعتك، ورئيساً لهيئة الأمم المتحدة لمكافحة التصحر لأنك صاحب تجربة رائدة بجيولوجيا الصلعات وووو

وأعذرك كثيراً يا سيدي لا لأنك ممن يَحقُّ لهم الترشح لجائزة نوبل على قصصك التافهة تفاهة مَن ينشر لك، لكن لأنك واحد لا أحد ممن استعطفْتَ صغار الكتبة ليقدموا لك كتبك، و تباكيت بكاء امرئ القيس على مجده، لكن من دون شرف طالباً التشجيع لكتابتك، فكنا ليس واحداً ممن ظنّ أنه يشجعك، فجمعت كلَّ تلك الكتابات ورحت تتخايل أنك أديب كبير وقف النقاد بالجملة والمفرق عند مدخل أدبك. وأعذرك لا لأنك تُعذَر بل لأننا أسهمنا بنشر فسادك، فلم تكن إلا من صغار مزوري المعاملات، وكَتَبَةِ الاستدعاءات، فغفلنا عن حيلك وجعلناك كاتباً، أعذرك بأن تغزو كل مواقع الأنترنت بما كتب عن أدبك زوراً يسوِّق تفاهتك، فما كنا قلة ممن كان شاهد زور على أدبك .

و أعذرك كثيراً يا سيدي لا لأنك عبقري بتسلّلك إلى ساحات النقد حين نام نواطير الثقافة عن ثعالبها، لكن لأنك لست واحداً لا أحد ممَن حاز درجة الدكتوراه من سماسرة العلم، وتبوأت كرسياً في الجامعة لا لأنك من حملة أخلاق الأستاذ الجامعي بل لأن الفَسَدَةَ يريدون سهلَ الامتطاءِ، ولأن غربالهم لا للغث ولا للسمين.


وأعذرك لا لأنني أضحك من نفسي بحكمة "وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ"
أو لأنني مؤمن بغربال الزمن بل لأن هناك من صنَّفك ناقداً ، ونسي أنّ
"لِهَوى النُفوسِ سَريرَةٌ لا تُعلْمُ"

وأعذرك يا صديقي أكثر من الكثير لا لأنك ابن زمانك الذي يقدم الناس على هوى فساده، ولا لأنك ملتزم بمعايير وقيم المفسدين، لكن لست واحداً لا أحد مَن يحق له أن يدخل كل الأبواب قبلي، و يمشي في كل الدروب أمامي، ويقدم نفسه على غيره، لأنك صاحب معيار مطاطي يُجيز لك أن تتقدم دائماً، وتكبر دائماً على غيرك، لكن سيدي! هل تعرف مَن يكبر في هذا الزمان، إذن لا تعذرني أحياناً بل اعذرني دائماً لكن أنا لست واحداً لا أحد يعرف ما أعرف ويعذر ما يعذر، فإني يا صاحبي أعذرك كثيراً فاعذرني أحياناً.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات