دائماً في الظلال نتعثر بالحقيقة

طالما شد العَلم الذي في رأسه نار الإنسان العربي، فهو الذي يهدي الضالّ في الصحراء ويرشد الجائع، ويؤمن الخائف الذي بغريزته يلتفت إلى الساطع، والمضيء سواء كان فعل الجذب بيولوجياً أو فيزيولوجياً، ويمكن فتح هذا المدى لوصله بحالة الباحثين الذين يفضلون دائماً تلك الدروب التي تحتوي على نقاط علاّم، ومنارات هادية، ليتجنبوا المتاهات والمفاوز. وبالإمكان التدليل على ذلك من خلال إفراطهم في دراسة الأدب الرسمي وإشباعه نقداً وتأويلاً بينما يعني الالتفات إلى ما هو أبعد اتساقاً مع ضلالٍ ما.

من ذلك الالتفات إلى الثروات الإبداعية المستورة في الزوايا المظلمة التي اقتصر في دراستها على التعريف ، والإظهار، ونفض التراب عن الرغامي من دون الحفر في ماهيتها وما تكتنزه، وسبر ما تحتويه من الإشراقات.

وهذا ما نلمح بعضه لدى دارسي الأدب الشعبي في العصر العباسي حيث وقفوا عند الصورة الشعبية الخالصة لذاتها، محتكمين إلى صياغة هذا الشعر، وصوره وخطابه المتدني عن درك الأدب الرسمي بالعرف النقدي المعاير بتفاضل ثابت، لا يتسق مع نوعية الموضوع الأدبي، وسبله الفنية المرتبطة بالموقف الذي ينجلي عنه الشاعر، محتسبين التوجه الساخر لهذا الشعر على النادرة والطرفة والفكاهة، مغفلين البعد السياسي الذي قنّعه شعراؤه بالسخرية.

لا بد أن نبين المقصود بالشعر الشعبي وسبب شيوع ظاهرته. إذ ثمة من يرى أن الشعر العربي منذ بزوغ إشراقاته الأولى، يرتبط في وجه من أوجهه بروح الشعب، فالشعر في جوهره يصدر عن رؤية مثالية لحيوات الشعب وطموحه وهمومه، وقد تمايزت هذه الروح في الشعر بحسب المرحلة التاريخية وصورتها الحضارية، وارتباط الشعر بصورة خطابها الموائم لحالته.

إذ كان الشعر في الجاهلية على سبيل المثال (صورة للحياة القبلية كما يقول شوقي ضيف تصور همومها وقضاياها وأحلامها، وبقي ذلك حاضراً في الدولة الأموية، مراوحاً بين الشعور القبلي والشعور الجماعي، بينما كان شعر صدر الإسلام في أغلب صوره يجسد مفهوم الالتزام المرتبط بالحياة صراحة، وما إن جاءت الدولة العباسية حتى تبدت صورتان متقاطعتان في جذرهما للارتباط الشعبي بالأدب الرسمي الذي لم ينفصل عن روح الشعب إلا ظاهراً، حيث كان الشعراء قبل كل شيء ينبتون من قاع المجتمع ممهورين بروح حياته المتصلة بالشعب، ثم كانوا وهم يمدحون الخلفاء والقواد (يصدرون عن صورة مثالية هي رغبة الشعب في صورة الحاكم ).

أما الصورة الأخرى فتلك التي تمثلت بما يسمى الشعر الشعبي الهامشي الذي ينحرف عن الشعر الرسمي في مادته وصورته، فهو معبر عن القاع الشعبي، صورته، وهمومه، وحالاته، كما هو مجسد لصورة خطابه، يقول الشمقمق نازعاً الغطاء المعطوب عن وجه الحقيقة السلطوية المستهلكة راسماً صورية للقاع الاجتماعي وخريطته، وجوده :


ولقد قلت حين أقفر بيتـي *** من جراب الطحين والفخارة
ولقد كان أهلاً غير قفـــــر *** مخصباً خيره كثير العمــارة
فأرى الفأر قد تجنبن بيتي *** عائذات منه بدار الإمــــارة
ودعا بالرحيل ذبان بيتـي *** بين مقصوصة إلى طيــــــارة

إنها صورة مبكرة لمفهومات التحديث الواقعي، والالتزام بقضايا الجماهير وربط الأدب بالحياة ، و هاهو ابن سودون في هزله السياسي يبني كاريكاتورية شعرية تتحرك بالتجاور مع الحركة الكاريكاتورية للسلطة البالية :


عجب عجب عجب عجــب ***بقر تمشي ولها ذنـــب
ولها في بزبزها لبــــــــــــن *** يبدو للناس إذا حلبــوا
من أعجب ما في مصـــر يرى *** الكرم يرى فيــــه رطب
والخيمة قال النـــــــاس إذا *** نصبت فالحبل لها طنب
الناقة لا منقار لهــــــــــــا *** والوزة ليس لهــــا قتب

ينعطف هذا الشعر عن الجزالة والرصانة والوقار، ليتجسد في صورة شعبية حارة بتفاصيلها ولغتها الواقعية المشبعة بدونيتها بعيداً عن زخرفة الحضارة المبهرة بجمالية وجوهها ، والمضللة عن عتمة الوجه الآخر.

فالشعر الشعبي (أدب من طراز يخالف ما هو سائد من أدب، له سماته وخصائصه ومضمونه المعبر عن حياة البسطاء، المهمشين، وأحاسيس المعدمين المنبوذين، أدب نقل لنا صدى أصواتهم الساخطة المتذمرة ومواقفهم الرافضة) وهذا المفهوم ينقلنا دون تخبط إلى انطواء هذا الشعر على موقف سياسي واضح، أججه ومهد لنشوئه المناخ السياسي الذي أشاعته سلطة الدولة العباسية، ودورها في البناء الطبقي الاجتماعي المتصل بخلل واضطراب تنتجهما السلطة الديكتاتورية، من خلال إشباع العصر بالانفتاحات الحضارية / ثقافياً/ وسياسيا/ً واجتماعياً/.

لم يتأتَّ للسلطة الوعي الكافي لاستثمار هذا التفتح والانفتاح الحضاري الذي تدفق نهراً جارفاً، فسعت الدولة وهي تفتحه من جانب إلى بناء سدود الأمان بارتجال، و من جانب آخر مقدمة حصانة السلطة على ما سواها، هذه السلطة التي لا تنسجم مع روح الانفتاح، فساد الفساد والتناقض والتنازع في شتى جوانب الحياة، فكانت هذه الحالة مادة خصبة للشعراء المتصلين بالقاع للتعبير عن مواقفهم إزاء السلطة ونسيجها السياسي، فأبدعوا قناعاً للشعبية والسخرية لتمرير رؤيتهم السياسية الرافضة والمدينة لهذه السلطة القامعة، والمبرزة للفساد والقهر والانتهاك.

لقد اتصل الشعر الشعبي بروح الحياة المعاشة، فانقلب الشاعر على الخطاب الرسمي السلطوي ليعيش معاصرته وخصوصية زمنه وارتباطها الحيوي بالفن وعلاقته الجدلية بالحياة خارقاً أطياف السلطة في تدجين صورة أدبية تقليدية منفصلة عن زمنها، تتكلس في رميمها وصدئها، ولنقرأ هذه الأبيات لجعفر الخياط راسماً لنا في ضحك أسود معالم التحديث الشعري :


فتقت بالهجر دروز الهوى
بإبرة من إبر الصد
فالقلب من ضيق سراويله
يعثر بي في تكة الجد
أزرار عيني فيك موصولة
بعروة الدمع على خدي
يا كشتبان القلب يا زيقه
عذبني التذكار بالوعد

تلك صورة حية، وموحية لبؤر التحديث المجهول التي تومئ للدارس بتقدمها على طروحات الحداثة، متراكبة مع ماهية إيقاعاتها في التثوير والتحديث، لعل في قراءتها ما يغذي رؤانا في استكشاف هوية الحداثة الموائمة لزمننا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات