أي : أبو سلمى .....
قال لي ومشى ، أذكرُ ذلك اليوم الذي جار عليّ فيه الصمت. دخلنا حينها محل بيع أزهار لنتهادى ورداً بمناسبة شفائنا من الصمت. لم يلتفت إلى أية زهرة كانت على الرغم من حبال جمالها الذي يشدّ الصخر. وسأل البائع: ألديك زهرة إكليل الجبل؟
سألته عن سبب خياره، قال: تلك قصة حياتنا على أننا لسنا ورداً . فنحن يا صاحبي نصٌّ موازٍ لحكاية تلك الزهرة التي بقيتْ معلّقة على المنحدر، فلا سقطت إلى الأرض، ولا علت إلى القمة. ووزّعت حياتها نصفها للحلم بالصعود. فأمضتْ نصف عمرها في التألم من عجزها عن تحقيقه. ونصف حياتها الآخر للرغبة في الهبوط . حيث اكتشفتْ أن جمالها ليس جناحاً يطيّرها . فأمضت نصف عمرها الباقي في الخوف من السقوط والاستسلام لليأس، قالها صديقي ومشى.
من يومها لم أمش معه، لم أنسه يوماً؛ لكنني تذكّرته يوم قرأت أسطورة زهرة إكليل الجبل التي تقول: إن صبية جميلة من صقلية, رفضت الخضوع للقهر والدمار حيث كانت صقلية ترزح لسيطرة (سيرس(، وهو إله الدمار والخراب الذي يسبب ثورة البراكين وقتل الأشجار؛ فناشدت السكان رمي أنفسهم في البحر. وفي أثناء سقوطها تحولت المرأة ذات العيون الزرقاء إلى زهرة إكليل الجبل.
وجارت عليّ الذكرى، فمشيت وحدي، وقلت لنفسي: لم نسقط، فنيئس، ولم نصعد فنحلم. ولم تكن مصادفة، ولا أدري مَن منا تذكر أن نلتقي بعد سبعة عشر عاماً ، في زقاق منسي في اليرموك الذي انتبذ صمته القصي، ونام يهزّ حلماً لا تدل عليه إلا شعارات انتشرت على الجدران، ظننت أن شوق سبعة عشر عاماً سيكون غير ما كان ، فوجئنا أن كلّاً منا تأمّل الآخر لثوان، أما هو فقال: زمان والله !! أتدري لم يمرّ يوم إلا وذكرتك ... لم تتغيّر كثيراً إلا أنّ اصفرار إكليل الجبل بدأ يدبّ في وجهك قالها ومشى، قلت له: ألا تعتقد أننا هبطنا عن السفح ، وإذا كنا نظن أننا معلقون بالسفح فذلك لأننا معلقون بشعر الحلم الذي بدأ يصلع، قلتها ومشيت، كأنه لشدة شوقه نسيني فصمت ومشى، وكأنني لشدة ذهولي صمتُّ، فكرت تُرى لماذا كنت أتصوّر أن لقاءنا سيكون غير ما كان؟؟
قطع صمتي وقال: ألا تعتقد كأننا صدمنا بلقائنا كم كنتُ أتصوّر ....صمتَ ومشى…
قلتُ : وأنا أفكر بما تفكر، ربما لأننا كنا نلتقي في الغياب حيث الحلم أجمل، قلتها ومشيت وتمنيت لو لم نلتق ،فقد كانت صورة اللقاء أجمل، قال لي: لا... لقاؤنا أجمل من الصور الشعرية في مخيلتنا، قلت له أو لنفسي: أنت كما أنت خليل أبو سلمى الذي كنى نفسه باسم شاعر خلع على دمشق صباه ، وعلى خليل حلماً يطارده ولا يمسك إلا سرابه .
سألته كأنك لم تعد تنشر الشعر، ابتسم فهزّ ذاكرتي أيام كنّا نعود من الجامعة نلف الشوارع على أمل أن نكمل أحاديثنا التي نقصرها على الثقافة والشعراء، ولا ندري بعد كل لفنا كيف كنا نعود معاً إلى منزل أحدنا، وكل منا يعيش بمفرده، فنأكل الكلام من قصيدة الخبز لمحمود درويش حيث نتذكر حين نجوع أننا نسينا أن نجلب الخبز ،قاطع ذكرياتي، وسألني : أكيد لا يمكنك الآن أن تنسى الخبز فقد صار عندك أولاد، و لن يغمسوا الهواء بشعر محمود درويش، قلت له: إنني أتذكر تلك الأيام.
قال لي: يا صديقي لم أعد أنشر، وأمس كسرت الجرة على الكوز، كنت كل مرة اُدعى إلى أمسية أقرأ مما أكتب، وأنا موقن أنّني لست عظيم زماني، لكنني متأكد أنني أكتب شعراً ، ودائماً كان الحوار الذي يدار في ختام الأمسية يوحي بأنني لا أمتلك الموهبة الكافية، أمس اخترت بعض قصائد محمود درويش ،ثم دونتها بخطيّ ، وصوّرت كل صفحة نقلتها، وذهبت إلى أمسية مكتظة بالنقاد والشعراء والمتقاعدين، وقرأت قصيدتين من شعر محمود درويش موهماً المستمعين أنهما من تأليفي.
كنت أخمّن أنه لا بدّ لأحد أن يكتشف ما فعلتُ، وفوجئت أن أول محاور ، وآخر محاور، وما بينهما اتفقوا على أنني لست موهوباً.... فانتفضت وأريتهم صور القصائد لأثبت أنّ ما سمعوه هو لمحمود درويش، غمغم بعضهم، واحتال بعضهم، وتهرّب مَن بينهما، فشتمت كلّ مَن حضر و مَن كان منهم ناقداً أو شاعراً أو بين بين، قالها، ووقف، دقّ الجرس خرجت ابنته سلمى، فعرّفها بأنني عمها الـ... كانت قدمها قد أصيبت بحرق قبل يوم ،كما عرفت سألتني: كذلك أنت تنسى جلب الخبز لأبنائك ؟؟؟
ثم خاطبت أباها قائلة: بابا " آدم " - وتعني أخاها- قال لي: سلمى بنت الجيران ، فقلت له: أنا أختك، لا بنت الجيران. ردّ عليّ: كلما طلب أبي مني أن أحفظ شعراً سأقول لك سلمى بنت الجيران؛ فالشعر الحديث ينسيني أنك أختي!!
ضحك وضحكت، ونسيت أن أسأله، ونسى أن يسألني عما حدث لنا بعد هذا الزمن فقد كنا نقرأ شعراً حديثاً.
افترقنا مرة ثانية ، وماهي إلا أيام حتى هبت ريح الثورة السورية في اليرموك ، وكما كان أبو سلمى يوماً ملتحقاً بصفوف الفدائيين الفلسطينيين، كان أول مَن هب في المخيم ، لم ينم فيه محمود درويش ، قاتل بكل الوسائل همجية نظام الأسد وغزوه مخيم اليرموك ، لم يكن بحسبان فلسطينيي المخيم أن يكون الغزو سورياً ، لكن حين ضاق الحصار ولا بحر هناك ولا سفن يرغم الأسد أبا عمار على الخروج من سوريا كما أرغمه على الخروج من بيروت . حمل أبو سلمى مثل كل فلسطيني التابوت ، فرّ من بحر إلى بحر وصل إلى فرنسا.
كان بودي أن أسأله أأنستك جدائل الفرنسيات الطريق إلى اليرموك ، أظن الطريق إلى القدس صار أبعد من طريق التبانة ، وبودي أن أسأله : الخبز الفرنسي أطيب ، أم هناك لا تنسى جلب الخبز لأبنائك ، أظن يا صاحبي شمس السين لا تطلع من اتجاه اليرموك . أتأكدت أخيراً أننا إكليل جبل ، معلقون في الهواء ... بالمناسبة بت أزرع إكليل الجبل على السطح لكي لا يبقى معلقاً مثلنا يا صاحبي.