يمرّ اليوم 12 ماي 2025 ، 144 عاما على إمضاء معاهدة قصر السعيد المعروفة بمعاهدة باردو التي فرضتها الجمهورية الفرنسية الثالثة على محمد الصادق باي فتنازل بموجبها و لفائدتها عن عناصر أساسية من سيادة الدولة وهي العلاقات الخارجية والجيش و الأمن الدّاخلي و المالية العمومية . احتلت فرنسا البلاد التونسية بحجّة حفظ أمن حدودها في الجزائر التي كانت احتلتها عام 1830 و ضمّتها اليها واعتبرتها أرضا فرنسية و يستفاد من نصّ المعاهدة اعتراف فرنسا بالدولة التونسية التي يمثّلها سموّ الباي الذي رضي أن تحتلّ فرنسا مواقع بالبلاد التونسية قصد إعادة النظام و الأمن على الحدود الغربية وفي السواحل التونسية و قد ورد في احد فصولها أن الاحتلال قد يزول فهل هو فعلا مؤقّت؟
معاهدة باردو: قد يزول الاحتلال باستتباب الأمن
يستفاد مبدئيا و من ظاهر نص المعاهدة في صيغتيها العربية و الفرنسي أنّها معاهدة « وقتية » رغم اختلاف كبير كما يبدو في الفصل الثاني بين الصيغتين يخصّ شروط انتهاء الاحتلال فهي ظاهريا وقتية [1] في النصّ الفرنسي تنتهي عندما تتّفق السلطتان العسكريتان التونسية و الفرنسية على أن الإدارة المحلية قادرة على ضمان استتباب الأمن غير انه في النصّ العربي لا يبدو جلاء القوات العسكرية الفرنسية عن البلاد التونسية متأكدا حتّى في حالة استتبابّ الأمن و إقرار الطّرفين باستتبابه فقد ورد في النص العربي « و قد يزول الاحتلال عندما تعترف السلط العسكرية الفرنسية و التونسية سوية أن الإدارة المحلية قادرة على حفظ الأمن » وهو ما يعني أن زوال الاحتلال غير مشروط وجوبا بقدرة الإدارة على حفظ الأمن واتفاق الطرفين المتعاقدين على حصول ذلك لأن الأمر كما يبدو مرهون بشروط أخرى غير محددة وهوما يستفاد لغة من استعمال الحرف » قد» الدال على عدم اليقين والتقليل والمرتبط بالفعل المضارع.
وإذ لم تحدد المعاهدة مدّة معيّنة أو أجلا محدّدا لزوال الاحتلال بشكل واضح وصريح فهي تكون عمليا و بناء على عدم تكافؤ الطرفين الممضين رهينة إرادة الدولة الفرنسية بمفردها فهي الطرف الأقوى يقيّم الوضع الأمني حسب مصلحته ففرنسا دولة احتلال لا تقبل استقلال مستعمراتها عنها كما انه يمكنها في كل حين الادّعاء و حتّى بعد استتباب الأمن وسيطرتها على الوضع الأمني سواء في داخل تونس أو على الحدود الجزائرية أن الإدارة التونسية غير قادرة وحدها على حفظ الأمن في الداخل وفي الحدود . وكيف لها أو تفعل ذلك مادامت الدولة التونسية جردت من قوّات الجيش و سحبت منها فرنسا صلاحية حفظ الأمن الداخلي و حماية البلاد من أي عدوان خارجي.
اتفاقية المرسى: قد يزول الاحتلال بإتمام فرنسا الإصلاحات المالية والإدارية و القضائية
و سرعان ما تأكّد أن معاهدة باردو تؤسّس لاحتلال تريده فرنسا دائما للبلاد التونسية وذلك بتحويل نظام المعاهدة من موقّت ظاهريا الى نظام استعمار دائم .فلقد قرّرت الحكومة الفرنسية إنهاء مهام أوّل وزير مقيم عام «تـيـودور رسطان » وعيّنت خلفا له « بيار بولس كامبون » الذي طلب إنهاء عمل الكومسيون المالي و سحب صلاحية القضاء من قناصل الدول الأوروبية المعتمدة بتونس و قد منحت لهم في اتفاقيات أبرمتها دولهم مع الدولة العثمانية و لا يخضع بموجبها رعاياهم الى القضاء الإسلامي. تجسم كل ذلك في اتفاقية المرسى المبرمة يوم 8 جوان 1883 بين حكومة فرنسا و بين علي باشا باي الذي التزم في الفصل الأوّل من الاتفاقية بان يسمح للحكومة الفرنسية بالقيام بالإصلاحات الإدارية والعدلية والمالية التي تراها صالحة للبلاد بينما تلتزم الدولة الفرنسية بضمان الديون التونسية وعملا بهذه الاتفاقية اصدر رئيس الجمهورية الفرنسية أمرا مؤرّخا في 10 نوفمبر 1884 يعطي الوزير المقيم العام الفرنسي بتونس صلاحية نيابة الدولة الفرنسية في مراقبة جميع أوامر الباي و اكسائها الصيغة التنفيذية وهوما جعل الدولة التونسية ممثّلة بالباي خاضعة كلّيا الى رقابة الحكومة الفرنسية ممثّلة بالوزير المقيم العام الفرنسي الذي نفّذ بمفعول رجعي الأمر الرئاسي في قراره المؤرّخ في 15 ديسمبر 1884 مصحوبا بقائمة أوامر استثنى منها عهد الأمان و دستور 1861.
بهذا الأمر الرّئاسي و بقرار الوزير المقيم العام نزعت فرنسا عن الباي سلطاته و لم يبق له سوى صلاحية إمضاء الأوامر التي تعدّها الإقامة العامة الفرنسية والتي لا تستشيره في شأنها و قد وصفت اتفاقية المرسى النظام الاستعماري « حماية » فرضتها الدولة الحامية على البلاد التونسية ما يجعل منها في نظر القانون الدولي وموجب وضعها ك « محمية » منقوصة السيادة لاسيّما و أنّ كل الأوامر التي يصدرها الباي صارت و بأمر رئاسي فرنسي تخضع الى رقابة المقيم العام الفرنسي لا تصير نافذة إلاّ إذا أشّر عليها.
و لقد أضفت معاهدة باردو واتّفاقية المرسى معا «شرعية » على التّدخّل الأجنبي الفرنسي في الشّأن التّونسي . هكذا أصبحت الدولة التونسية في نظر القانون الدولي محمية فرنسية فاقدة لأركان سيادة الدولة فيما يخص العلاقات الدولية و الدفاع و المالية هكذا صارت محمية سياسيا وقانونيا بعد أن كانت بموجب الكومسيون المالي محمية ماليا لثلاثة دول هي فرنسا و إيطاليا و بريطانيا.
كما يستفاد من نصّ اتفاقية المرسى أنّ الإصلاحات المنصوص عليها صلبها تقوم بها الدولة الفرنسية تلبية لرغبة الباي في إنجازها « لتحسين الأحوال الدّاخلية في القطر التّونسي… » بينما هي إصلاحات في نظر الحكومة الفرنسية ركّزت بها إدارة فرنسية و محاكم فرنسية ولم تضبط هذه الاتفاقية مدّة محدّدة أو أجلا معيّنا يتمّ فيه إنجاز تلك « الإصلاحات » فتكون هذه الاتفاقية أضافت ضمنيا لزوال الاحتلال شرطا مبهما غير محدّد المعالم.
المستوطنون و الرابط الدائم بين تونس و فرانسا
قصد فرض وصايتها على تونس لم تكتف فرنسا بمعاهدة باردو وباتفاقية المرسى و مارست سياسة الاستيطان تلك التي مارستها في الجزائر فشجّعت العنصر الأوروبي مهما كانت جنسيته على القدوم الى البلاد التونسية قصد الاستيطان بها و ملكته الأراضي التي افتكتها من أصحابها لاسيما من القبائل و إدارة الأوقاف و ومنحت للعنصر الأوروبي الجنسية الفرنسية رغم أن الكثير منهم لا يعرف الأرض الفرنسية (الميتربول) و ليس له بها أية علاقة إذ أن علاقته بفرنسا لا تتجوز حصولها على الجنسية الفرنسية.
و بواسطة سياسة الاستيطان وافتكاك الأراضي وتهجير السكان كثر عدد المستوطنين الذين اصبح لهم نفوذ كبير جدا لدى الإقامة العامة و في الحكومة و البرلمان الفرنسيين واصبحوا يعرفون ب « فرنسيي تونس » حتّى أنه خلال مفاوضات الاستقلال طالب الوفد الفرنسي من الوفد التونسي الإقرار لهم بحق تمثيلهم في المجالس النيابية و بحق نظرهم في ميزانية الدولة و بجعل اللغة الفرنسية اللغة الرسمية للدولة التونسية و الإقرار بوجود رابط دائم لتونس مع فرنسا.
لقد سمت معاهدة باردو واتفاقية المرسى احتلال فرنسا لتونس حماية غير أنها كانت استعمارا بشعا قام على سرقة الأراضي ونهب الثروات وإذلال شعب بكامله بحجة أمنية أحيانا وبحجة حضارية أحيانا أخرى ففرنسا ذات رسالة تنويرية لشعوب همجية متخلفة.
الهوامش
[1] Le dernier paragraphe de l’article 2 : » Cette occupation cessera lorsque les autorités militaires française et tunisienne auront reconnu, d’un commun accord, que l’administration locale est en état de garantir le maintien de l’ordre