هل نضرب أخطبوط الفساد بعصا رجل وحيد ؟

استقبل رئيس الجمهورية يوم الخميس 30 سبتمبر 2021 بقصر قرطاج نجيب القطاري رئيس محكمة المحاسبات الذي قدّم له تقريرا حول الرقابة على التصرف الإداري والمالي للهيئة العليا المستقلة للانتخابات و اثناء اللقاء دعا رئيس الجمهورية القضاء إلى تحمل مسؤولياته كاملة ومحاسبة المتورطين في قضايا الفساد و وصف المرحلة التي تمر بها بلادنا بالتاريخية.

ان مقاومة الفساد مسألة ضرورية لسلامة أي مجتمع ديمقراطي ومظاهره متعددة سياسية مثل التمويل الأجنبي للأحزاب واعتمادها في الحملات الانتخابية واقتصادية كنهب المال العام والمضاربة والاحتكار وتبييض الأموال والتهرب الجبائي و لكن هل تتطلب مقاومة هذه الآفات اتخاذ تدابير استثنائية ؟و هل تتوقف مقاومتها بانتهاء العمل بتلك التدابير ام ان مقاومتها جهد متواصل إذ لا يخلو منها زمن أو بلد ؟

للجواب على هذه الأسئلة سوف نلقي نظرة على التجارب المقارنة و نأخذ مثال الدولة الفرنسية التي لها تأثير جلي جدا في تجربتنا السياسية والقانونية والثقافية لنرى حجم الفساد الذي عرفته ولنتبين شكل التصدي الذي اعتمدته في مقاومة الفساد السياسي من خلال أمثلة نسوقها لتوضيح مبتغانا من هذا المقال.

1) فساد الطبقة السياسية في فرنسا

أ) نيكولا ساركوزي

تعلقت بنيكولا ساركوزي الرئيس السابق للجمهورية الفرنسية عدّة قضايا فساد منشورة لدى المحاكم الفرنسية و من بين التهم الموجهة ضدّه التمويل غير القانوني لحملته الانتخابية لرئاسية 2012. وقع ذلك اثناء مباشرة رئاسته للجمهورية الفرنسية و بمناسبة ترشحه لمدة رئاسية ثانية. و في شأن هذه التهمة صدر عليه يوم 30 سبتمبر 2021 حكم بثبوت الادانة و بالسجن لمدّة سنة مع النفاذ كما صدرت على 13 متهما آخرين احكام بالسجن من عام الى ثلاثة اعوام و نصف في هذه القضية المعروفة بقضية بيغماليون و هي وكالة اتصالات كانت نظّمت اجتماعات الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي الرئيس المنتهية ولايته و المترشح لولاية ثانية.

وقد كشف البحث في هذه القضية عن منظومة كبري لتزوير فاتورات الحملة الانتخابية لإظهار ان مصاريفها لم تتجاوز المبلغ الأقصى المأذون به قانونيا حتى لا يحمّل جزء منها على ذمة الحملة الانتخابية، بل على ذمة « الاتحاد من أجل الحركة الشعبية وهو حزب رئيس الجمهورية نيكولا ساركوزي وقد وجّهت تهمة التزوير الى مسئولين بارزين في الحزب والى فريق حملته الانتخابية والى مسئولين في « بيغماليون » و الحكم المذكور اعلاه يتعلق بجريمة التمويل غير القانوني للحملة الانتخابية.

و كان المجلس الدستوري اصدر قرارا في جويلية 2013 «بواسطة اللجنة الوطنية لحسابات الحملة و التمويل السياسي » التي عاينت ان مصاريف الحملة الانتخابية تجاوزت السقف القانوني.

مع العلم ان الحكم الاخير الصادر في 30 سبتمبر هي الادانة الثانية له فقد صدر على نيكولا ساركوزي يوم 1 مارس 2021 حكم بالسجن بثلاثة اعوام منها عام بالنفاذ من اجل تهمة الفساد و « واستغلال النفوذ » عندما حاول عام 2014 الحصول على معلومات سرية تخصه من قاض بمحكمة التعقيب و إبطال عقلة على » دفاتره الرئاسية في مقابل وعد منه بالتوسط للقاضي لنيل منصب هام في امارة موناكو.

ب) الوزير الاشتراكي «جيروم كاهوزاك «

«جيروم كاهوزاك » هو وزير معتمد مكلف بالميزانية اثناء حكم الرئيس الفرنسي » فرانسوا هولاند » اتهمه » ميديا بارت » وهو موقع صحفي بأنه يملك اموالا لم يعلن عنها مودعة في حسابات بسويسرا و بسنغافورة لكن الوزير انكر ذلك في عديد المناسبات. احداها امام نواب البرلمان ثم اضطرّ للاعتراف فأعفاه رئيس الجمهورية من منصبه و احيل على القضاء وحكم عليه ابتدائيا بالسجن ثلاثة اعوام و خفضت في الاستئناف الى عامين.

ج ) «وزير العدل الفرنسي الحالي ايريك دوبون موريتي «

وزير العدل الفرنسي الحالي رفعت ضده قضية فساد موضوعها تضارب المصالح فقبل توليه الوزارة كان محاميا مختصا في القضايا الجزائية و كان محل تتبع من القطب المالي الفرنسي في قضية تتعلق بمحاولة نيكولا ساركوزي ارتشاء قاض في محكمة التعقيب لكنه اعتبر التتبع ضده مخالفا للقانون و رفع قضية ضد القطب القضائي سحبها اثر توليه وزارة العدل غير انه طلب من التفقدية العامة بالوزارة اجراء بحث اداري ضد القضاة الذين اذنوا بالبحث ضده فتحركت نقابات القضاة ضده و في جويلية 2021 وجهت له المحكمة المختصة في محاكمة اعضاء الحكومة من اجل الجرائم المنسوبة لهم وهي « محكمة عدل الجمهورية « تهمة الحصول على منافع غير قانونية.

د ) « فرنسوا فيون » الوزير الاول الفرنسي السابق

كشفت الصحافة الفرنسية ان سياسيين فرنسيين و احزابا سياسية يعمدون الى توظيف وهمي لفرد من عائلتهم او لمقرب لهم في خطة مساعد برلماني يحصل بموجبها على أجرة من المال العام ونذكر من بين المتهمين ومن بينهم «فرنسوا فيون » (11) الوزير الاول الفرنسي سابقا.

كان نائبا في البرلمان الفرنسي ثم شغل منصب الوزير الأول أثناء رئاسة نيكولا ساركوزي للجمهورية الفرنسية و كان ترشح لرئاسة الجمهورية سنه 2012 و كانت حظوظه بالفوز وافرة غير انه و اثناء حملته الانتخابية نشرت احدى الصحف الفرنسية مقالا ذكرت فيه ان زوجة فرنسوا فيون كانت تتحصّل من عام 1998 الى عام 2007 ثم عام 2012 على مبلغ مالي كبير بعنوان اجرة معينة برلمانية وهو عمل لم تكن تشغله و رغم انكاره التهمة أحيل على القضاء المالي المختص وصدر عليه حكم بثبوت الادانة و بالسجن فاستأنف الحكم.

و يوم 3 سبتمبر 2021 نشر موقع « فرانس24 » باللسان الفرنسي ان فرنسوا فيون فتح ضده بحث جديد من اجل تهمة تعود وقائعها الى الفترة التي كان يشغل فيها منصب الوزير الأوّل حينها كلّف شخصا بتحرير كتاب باسمه وجعل مكافاة الكاتب المأجور من المال العام.

ان ظاهرة الفساد تنخر الطبقة السياسية في فرنسا وهي تمس كثيرا من المسؤولين الكبار في الدولة كالمرشح للرئاسة او الوزراء غير ان فرنسا لم تلجأ الى أي تدبير استثنائي رغم وجود فصل في دستورها وهو الفصل 16 الذي ينص على هذه التدابير. و لم يفعّل هذا الفصل لأنه لا حاجة اليه في ظل صحافة حرة وقضاء مستقل . لم يفعل الفصل 16 من الدستور الفرنسي الا عند الخطر الداهم الفعلي لا المتوهم فقد لجا اليه الجنرال دي غول عندما تمرد جنرالات في الجيش الفرنسي بالجزائر على الدولة اعتراضا منهم على قبول دي غول حق الجزائريين في تقرير مصيرهم . ان مقاومة الفساد جهد يبذل في ظلّ سير دواليب الدولة العادي سواء أتّهم بالفساد مواطنون عاديون أو اشخاص مارسوا او سبق ان مارسوا مسئوليات كبرى في الدولة كرئاسة الدولة او في احدى الوزارات.

2) أخطبوط الفساد لا يقاوم بالحكم الفردي

الفساد يمس المجتمع بأسره ، و ينزل من الرئيس إلى الوزير إلى النائب في البرلمان الى القاضي وصولا ، إلى الموظفين في الإدارات وأعوان الأمن كل منهم يمارس الفساد بحسب ما له من نفوذ وما يمكن أن يجنيه منه . و من الوهم الاعتقاد أن شخصا وحيدا مهما كانت حسن نواياه يمكنه محاربته وهو المتغلغل في مفاصل المجتمع لكأنه إخطبوط مترامي الإطراف او مؤامرة كونية على المجتمعات والدول، بل نحتاج إلى رقابة دائمة والى الصرامة في تطبيق القوانين ذات الصلة. و مقاومته موكولة أيضا إلى السلطة القضائية لاسيما القضاء المالي و القضاء الجزائي المتعهد بالقضايا المنشورة لديه و المطالب بالبت فيها في آجال معقولة وإصدار الحكم إمّا بالإدانة إذا ثبت ارتكاب المتهم جريمة الفساد المحال من اجلها لدى القضاء و إمّا بعدم سماع الدعوى إذا ثبتت براءته. وهو من مشمولات الهياكل الوسيطة داخل المجتمع المدني المتخصصة في مراقبة الشفافية والحوكمة الرشيدة والى الصحافة الاستقصائية المهنية والإعلام الحر كما نحتاج في محاربة آفة الفساد إلى نشر ثقافة الدفاع عن الصالح العام وقيم نظافة اليد منذ التنشئة الأولى . وان سيرورة هذه المبادئ دون شعارات زائفة للخداع ودون أن تتحول إلى دعاية تستغلها السلطة في أوقات أزماتها للتلاعب بالرأي العام ستضمن بالضرورة سيرورة نبذ الفساد كجهد جماعي متواصل للقضاء عليه أو على الأقل الحد منه .

و إن القول بخلاف هذا يؤدّي حتما الى إدامة حكم التدابير الاستثنائية و هي بطبيعتها مؤقتة وان طالت ولن تفلح في محاربة الفساد، بل لعلها ستساهم في تردي الوضع الاقتصادي وهو المدخل الرئيس لنشر الفساد على مستوى أفقي معمم.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات