الفرز العقدي واسترجاع المجال المفاهيمي: في فهم أسباب هواننا أمام منظومة فرنسا (3)

كنت طرحت وجوب الفرز العقدي للفواعل المؤثرة في الواقع التونسي كمدخل لتعيين التقابل بين فرنسا العدو (1) ومنظومتها من جهة ومن يخرج عن صفهم من جهة أخرى. وهذا طرح يواجه اعتراضات عديدة، نمطية في أغلبها، تستعمل من دون فهم سبب الرفض وإنما لأن غيرهم الغالب الذي يقتدون به ضمنا أو مباشرة قال بعدم الاعتماد على العامل العقدي الفكري (2) للتصنيف والتقييم، فرددوا ما قال، وفيهم من اشتدت به التبعية الذهنية وأسرف في ذلك حتى أنه لا يطلع على تفصيل ما تقول ومبرراته، فيعرض عنك وعن رأيك ما إن يرى عنوانا يقول بالفرز العقدي.

يكتب بعضهم في ذم التناول المبني على الفرز الأيديولوجي كما يسمون التناول العقدي و يسفهونه، وفيهم المنتمي صراحة لمنظومة فرنسا الإلحاقية و لكن فيهم من هو غير ذلك ممن يقول بنصرة الثورة، بل وفيهم من يقول بالانتماء للهوية كما يفهمونها، ويجمع كلهم أن ذلك التناول فاسد لا يصحّ ولا يصلح لحل مشاكلنا، بل قد رأيت فيلسوفا علما يكتب في هذا الاتجاه، ولكني لم أر منهم واحدا فصّل في سبب فساد هذا التناول وإنما هي إمعية ذهنية وقبول بالمعيارية الفرنسية التي تلزمهم بذلك فيقبلون بها.

التناول العقدي ليس تتبعا لأفعال الناس

- الحقيقة التي نعرفها كلنا ويتجاهلها أصحاب المخوّفين من التناول العقدي، هي أنه في الواقع التونسي الحديث ولنقل منذ الخروج الشكلي لفرنسا وتسلم بقاياها السلطة، لم يحصل أن تم اعتماد التناول العقدي الإسلامي كعامل تصنيف ولا كخلفية لفهم الواقع والتعامل معه بطريق مؤسسية أي حزبية أو منظماتية، فكيف يخوفون من أمر لم يحدث، وان كان خطرا مفترضا فتحذيراتهم مبنية على مصادرة لاقيمة لها.

أما منظومة جامع وجامعة الزيتونة وبيوتاتها التاريخية، فكانوا أبدا خدما للسلطات وظيفيين فقهاء سلطان أذلاء كعادة فقهاء السلطان (3)، كذلك كان دأبهم في عهد البايات ثم فترة الاحتلال الفرنسي وصولا لعهدي بورقيبة وبن علي، وأما تنظيم الاتجاه الإسلامي / النهضة، فسرعان ما حفرتهم آلة القمع ودعايتها انتهت بهم للتبرؤ من مشروعهم الذي رفعوه ذات مرة، ثم تحولوا لسعاة مهمومين بالتقرب مما قالوا يوما بتغييره ومحاربته أي الواقع الذي شكلته فرنسا.

- الطرح الذي يقول برفض التناول العقدي، يقصد ضمنيا رفض التناول العقدي الإسلامي تحديدا، وتفسير ذلك أولا أن رفض العقيدة بمفهومها المتداول هو ذاته قبول وتبني لمفهوم آخر للعقيدة أو بدقة تبنى لعقيدة أخرى، إذ رفض العقيدة عقيدة لأن العقيدة هي التصورات الذهنية المؤطرة لمفاهيم الفرد في الحياة وقد تكون دينا وقد تكون فلسفة وضعية، ورفض دين ما هو عقيدة، ثانيا لأن العقيدة المقصودة لدينا بتونس كموضوع للرفض هي الإسلام ومنظومته المؤطرة للواقع، فثبت أن رفض التناول العقدي هو وجه مخفي لرفض الإسلام في تونس.

- التناول العقدي لا يعني تناولا فقهيا للواقع، أي لا يقصد به التحريم والتحليل وقطع يد السارق ولا الزواج بأربعة كما تروج أدوات الدعاية المحاربة للإسلام، وليس يعني كذلك استبعاد تلك الأفعال ولا تجريمها، وإنما القصد أن التناول العقدي أمر آخر لا علاقة له بتلك المسائل ولا يخوض فيها أصلا.

التناول العقدي ينظر في معاني الأفعال ولا ينظر في أفعال الناس ذاتها، التناول العقدي يريد أن يحرر مساحة المفاهيم التي استولت عليها فرنسا وبقاياها وبدلوها، لأن الذي يتحكم في المعنى يتحكم في أفعال الناس ويوجههم و يصيغ الواقع حسب مصلحته، وهو ما تفعله فرنسا بنا منذ عقود.

نريد أن نحرر أنفسنا من الفلسفة التي تقول بأصالة الواقع للحكم وتقييم عقيدتنا وسلوكياتنا من خلالها، ونسترجع فلسفتنا ونجعلها حاكمة وضابطة للواقع، نريد ان نفعّل فكرنا ونضبط به الواقع ونطرد الفلسفة الفرنسية المتحكمة فينا والمقزمة لعقيدتنا والمحاربة لها والتي حولتنا لتبع أذلاء، هذا ما نقصده بالتناول العقدي كمسطرة للفهم.

التناول العقدي مساحة أكبر من الأفعال ومن الأفراد، التناول العقدي نظر فلسفي للواقع بخلفية مفهومية معينة تعتمد الإسلام كمؤطر للحياة ولما بعد الحياة، ذلك هو مدلول مصطلح المجال المفاهيمي الذي أقصده.

المجال المفاهيمي ومعاني الأفعال

- أفعال الناس حينما تدخل الوجود تتحرك في بعدين، بعد الوجود المادي الذي يقاس بالمكان والزمان، ثم بعد المعنى، والمعنى يتحرك وجوبا في امتداد سابق للمعاني أي أنه يلزم أن تكون هناك مساحة بها تجريدات مفاهيمية تعطي معنى للأفعال وهي تجريدات سبق وجودها في ذلك الواقع.

إذن الفعل يتحرك وجوبا داخل حقل مفاهيم مفترضة و أغلبها ضمنية غير متفطن إليها، فالذي ينطلق صباحا للعمل يحيط فعله ذلك مجموعة من الفرضيات الضمنية وهي أنه سيجد وسيلة نقل و أن الطريق لن يكون مغلقا وأنه كذا وكذا,,, وأما المفاهيم الضمنية فهي تتعلق بمعنى العمل والرزق وتكوين الأسرة وموافقة المجتمع على سعيه في كل ذلك.

مجموع تلك الفرضيات الذهنية الضمنية المتعلقة بأفعال الفرد حين خروجه صباحا من بيته، تمثل مجالا ومساحة تعج بالمفاهيم والتقييمات والتصنيفات من قبول ورفض وإلزام وإباحة، وهي عناصر لامادية وتجريدات ذهنية، وذلك هو المجال المفاهيمي الذي أقصده.

- المجال المفاهيمي مساحة أكبر من الفرد ومن أفعاله، فهي التي تعطى قيمة لوجوده المعنوي، وهي التي يعتمدها الفرد لتبرير أفعاله، فالمجال المفاهيمي لا تعلق مباشر له بالأفراد ولا بالأفعال ولا بالحلال والحرام وإنما يؤطر كل ذلك.

من زاوية أخرى، يمكن القول أن المجال المفاهيمي ينظر في المساحة العامة بينما أفعال الفرد تخص المساحة الخاصة، وعليه فالتناول العقدي للواقع ينظر في التأثير في المجال العام ولا ينظر في المجال الخاص للفرد.

الفرز بالمجال المفاهيمي وليس بالأفعال

- استعمال مصطلح المجال المفاهيمي كعامل فرز وتقييم للواقع وهذا معنى الفرز العقدي يعد أفضل من اعتماد الأفعال، لذلك فإن اعتماد تحريم وتحليل أفعال الناس مقياس غير صائب لا لفهم الواقع ولا لتغييره (4)، لأن الفعل مجرد نقطة في مسار زمني من إطار عام، ومساحة ذلك الواقع لا يمكن الإحاطة بها في نقطة فقط من مساره
لنأخذ عينات من ذلك القصور في التناول لفهم هذا الجانب من المسألة :

1- لنأخذ أحد فقهاء السلطان ممن يطلق فتاويه حول أفعال بعينها فيحلل ويحرم، حينما نأخذ فتاويه تلك فإنها ستكون صحيحة في ذاتها وأحكامه ستبدو معللة فقهيا، لكن حينما نتناول المجال المفاهيمي للاطار الذي وجد فيه ذلك الشيخ ممن يعيش مترددا على الباي أو المقيم العام الفرنسي المحتل لبلدك أو على بورقيبة او بن علي أو ال سعود، فإن ذلك المجال سيوضح لنا اننا ازاء واقع تحكمه مفاهيم وتصورات لا علاقة لها بالإسلام من ظلم وموالاة كفار وقتل للناس، فهنا تبين ان تقييم فعل فقيه السلطان من خلال مسطرة الحلال والحرام قاصر على تقييم ذلك الواقع، ولكن النظر للمفاهيم الحاكمة والمؤطرة لواقع ما هي التي تعطينا الفهم السليم.

ولعل سبب قصورنا في تبين الخلل في مثل هذه الوضعيات أن تراثنا الفقهي أسس نظره على الفرد كموضوع ولا ينظر في المجالات التي يتحرك فيها الناس كمجموعات ولا يعني بتقييم المجال المفاهيمي الضابط لها، لأن ما يهمه هو الحلال والحرام والاجازة و الاباحة وتفريعاتها، وهي أحكام حدية لأفعال اي لفرد في زمن ما، وهذا تناول لا يمكن من فهم الواقع في كليته الذي تحركه المفاهيم السائبة وليس بالضرورة أفعال الافراد.

2- مسابقات الموضة التي تعقدها جهات معينة لعروض يقولون أنها متعلقة بلابسات الزي الإسلامي، بل مسابقات ما يقولون انه ملكة جمال المرأة المسلمة حيث تتسابق فتيات لابسات الحجاب كما يقولون وتتبارين في أمور كثيرة، لو أخذنا الفعل فقط أي فتاة تلبس لباسا يبدو متوفرا على شروط الزي الإسلامي، فهذا كفعل قام به فرد يعد حلالا ولا يمكنك تحريمه لاعتباره كذلك، لأن الحكم على الفعل ينظر له في تعلقه بالفرد في لحظة وقوعه فقط.

طيب الآن لو نظرنا للمجال المفاهيمي لتلك المسابقة فان مسابقات الجمال والموضة تفصيل من خلفية فلسفية تنظر للمرأة باعتبارها سلعة ومساحة منافسة يستثمر فيها الغير من شركات ربحية ويوظفونها لبيع منتوجاتهم سلعهم، نحن هنا إزاء مفاهيم فلسفية غير تلك التي يقول بها الإسلام الذي لا ينظر للفرد بهذا المعنى ولا يقر بالربح بهذه الطرق.

اذن النظر للفعل فقط ثم بمسطرة الحلال والحرام قاصر ان يكشف الحقيقة، ووحده المجال المفاهيمي المحرك للعملية في كليتها هو من يوضح حقيقة المسألة ويبين اننا ازاء توظيف للإسلام لخدمة فلسفة غيره.

يقرب من هذه الحالة ما يسمى الاحتفال بيوم المرأة، وبأقل حدة منه الاحتفال بما يقال أنه يوم الأم، فهي في ذاتها أفعال (احتفالات) لا مشكلة فيها، ولكن لو نظرت اليها من خلال مجالها المفاهيمي الذي أوجدها فإنها ستكون تسليما بفلسفة غربية وبنظرتها للوجود ولمفاهيمها للمرأة وللام التي تختلف عن نظرة الاسلام لها، و المشاركة بتلك الاحتفالات تسليم بالغلبة الرمزية لتلك الفلسفات وبتفوق معياريتها، وتوظيف للإسلام لخدمتها، وهي كما ترون مسائل لا يحسم فيها ولا تتبينها مسطرة الحلال والحرام.

سيسأل سائل ممن تستغرقه تفاصيل الواقع، طيب ما دخل كل هذا الكلام في انقلاب قيس، الرد أن فرنسا ومنظومتها هي التي تحكم تونس وهي التي تدير الانقلابات وتتحكم في مآلاتها ان لم تكن هي من أوجدتها ابتداء، وهي التي تحكمنا ماديا من خلال اتباعها، لكن الاخطر تحكمنا ذهنيا بسيطرة فلسفتها التي توجهنا بها وتملي علينا كيف نفهم الواقع وما نترك وما نأخذ منه، بحيث لا ننتبه لا لخطورتها ولا لكيفية التخلص من حيلها للتحكم فينا واستغلالنا، وما اكتبه محاولة للتنبيه على هذا أو بعضه للمساعدة على التخلص من حبال فرنسا الكثيرة وما انقلاب قيس الا تفصيل صغير.


الهوامش

(1) فرنسا دولة عدوة لتونس، وهي يجب أن تكون على قائمة الأعداء، ثم تليها "إسرائيل" التي تمثل خطرا علينا لكنه خطر محتمل، عكس فرنسا التي تمثل نسبة للزمن، خطرا وقع وبصدد الوقوع وسيقع
أنظر بالتفصيل خطر فرنسا، في مقال : أيهما أخطر على تونس: فرنسا أم "إسرائيل"
https://myportail.com/articles_myportail.php?id=9836

(2) لا أستعمل أيدلوجيا في المقالات الفكرية، و أفضل بدلها العقيدة والفكر (الحقيقة أن الفكر تفصيل عن العقيدة)، لان أيديولوجيا مصطلح ذو حمولة غامضة ومتمددة ثم إنه توسع لشدة استعمالاته المختلفة حتى لم يعد وعاء اصطلاحيا دقيقا.

(3) من كان يجد في نفسه شيئا ويعتقد أني أوجعت في أصنامه، فليطلع على مقال: بورقيبة والزيتونيون والتبعية لفرنسا: حقل الأصنام
https://myportail.com/articles_myportail.php?id=9975

(4) التحريم والتحليل يصح استعماله لمحاكمة فعل الفرد في زمن ما، فهي تناولات حدية، ولكنها لا تصح لفهم الفعل ككل ولا للمجال المفاهيمي للفعل أي الخلفية العقدية المؤثرة في الواقع.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات