في إيقاف مشروع العنف بالعنف المشروع

قبل أن نتحدث عن مشروعية العنف لنفهم قوانينه النفس اجتماعية. كيف تتولد شهوة العنف في النفوس وكيف تتنامى فيها؟

قديما قال حكماء اليونان أن النفس البشرية متكونة من ثلاث قوى: القوة الشهوانية، وهي أدنى القوى وأقربها للغرائز الحيوية؛ القوة الغضبية وهي قوة منافحة عن الوجود الحيوي الذاتي أو مهاجمة للوجود الحيوي للآخرين. وأحيانا تندمج الوظيفتان: المنافحة والمهاجمة لتأمين الوجود الذاتي. لكن النزعة العدوانية كثيرا ما تكون مجانية، أي غير مرتبطة بتأمين الوجود الحيوي الذاتي الذي هو للقوة الشهوانية، أو ما دون ذلك حيوية، مثل الاغتصاب الذي تنشط فيه القوتان الشهوانية والغضبية معا ، وإنما قد ترتبط بشهوة اللذة والسيطرة والهيمنة والاستعباد.

أخيرا تأتي القوة الناطقة أو العاقلة. بحسب التقسيم التقليدي للقوى النفسية، فإن ثلثي الإنسان غير عاقل، ولكن هذا لا يعني ضرورة الجنون أو الانحراف. فالحب "غير عاقل" وهو شعور تمتزج فيه حرارة الشهوة بحرارة التحفز عندما يكون بين الرجل والمرأة. ولذلك يغار الحبيب على من يحب ويغضب لشرفه وعرضه وقد يمارس العنف للمنافحة عنه. فهل هذا العنف مشروع أم غير مشروع؟ في العرف الاجتماعي لا يسلب الغضب من رجل على عرضه إلا كان ديّوثا. ولقد غنى الشاعر الحكيم المتنبي:


لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

حتى يُراق على جوانبه الدم.

وعنْ أَبي الأعْوَر سعيدِ بنِ زَيْدِ بنِ عَمْرو بنِ نُفَيْلٍ، أَحدِ العشَرةِ المشْهُودِ لَهمْ بالجنَّةِ، قَالَ: سمِعت رسُول اللَّهِ ﷺ يقولُ: منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ.
رواه أَبو داود، والترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

الموت قتلا منافحة عن قيمة معنوية أو مادية لا يكون إلا في سياق تبادل عنف. فهنا ليس القاتل والمقتول في النار، بل القاتل في النار والمقتول شهيد في الجنة. فماذا لو قتل المنافح عن عرضه وعن ماله وعن دينه من قاتله في ذلك؟ هل سيكون مذنبا؟ قطعا لو لم يجد إلا تلك الطريقة لصون نفسه وأهله وعِرضه ودينه وماله فإنه لا ذنب عليه.

لكن أليست هذه الأحكام مناسبة لمجتمعات ما قبل الدولة الحديثة؟ مجتمعات رعوية حيث لا سلطة للدولة المركزية أو للسلطات الجهوية على المواطنين؟ أليست هذه احكام في إطار لم يكن ممكنا فيه تفويض استخدام العنف المشروع للدولة العادلة؟ نعم ولا. لا، إذا لم يكن بإمكان صاحب القضية العادلة صون عرضه من الاغتصاب أو إنقاذ نفسه أو نفس أحد أقاربه في السياق الحي للعدوان عليه إلا بتدخله المادي الشخصي لمنع المعتدي من تنفيذ عدوانه، ونعم إذا كان الأمر يتعلق فقط بالانتقام من المعتدي بعد حدوث العدوان سواء حقق العدوان مأربه أو لم يحقق. هنا الجزاء لا يكون بيد المواطن، بل بيد الدولة حصرا.

ولكن ماذا لو أن الدولة تقاعست أو ضعفت عن الاستخدام العادل للعنف المشروع الذي تحتكره وطال عجزها عن تنفيذ حكم القصاص من المعتدين؟ عندئذ سنعود إلى حالة ما قبل الدولة. ربما إلى مجتمع القبيلة أو قانون الغاب.

إن ما حدث في البرلمان التونسي من اعتداء بالعنف من نائب (متقلب الانتماءات السياسية، وأبعد ما يكون عن التخونج كما تدعي الألسن الخبيثة) على زعيمة الفاشية والتهريج ومرتكبة جرائم التعطيل المتكرر والفج لأعمال أكبر سلطة في البلاد التي هي للبرلمان، هو في تقديرنا بسبب تلكؤ الدولة عن أداء واجب رفع مانع السير العادي لجلسات البرلمان وإيقاف التهريج فيه. عندما لا تمتد قبضة الدولة إلى المجرمين ضد الثورة وشهدائها والدستور والقانون والنظام الداخلي للبرلمان، تتكور قبضات بعض نوابه إن سرا في القلوب أو على الشفاه أو فعلا في الأيدي فتُسدّد اللكمات لمن به بلغ السيل الزّبى. هذا هو تفسير ما حدث لعبير موسي مع صحبي صمارة.

والتفسير هو غير التبرير. فنحن نقول ونفعل ما يجب بالنفس العاقلة لا ما نحب بالنفس الشهوانية أو الغضبية. والحل هو في مسك الدولة بزمام الأمور وتسديد "لكماتها القانونية" القوية للمعتدين على عرض الثورة وشرف الدستور وثروة الشعب. وإلا فقوانين علم النفس الاجتماعي السياسي ستقود لا إلى استخدام اللكمات الفردية فقط، بل قد تجعلنا على شفا حرب اهلية، وما هي في منشئها بالأهلية، بل هي حرب بين متدخلين سافرين في الشأن التونسي من خلال عملائهم وكلابهم في الداخل من جهة، والغيورين على الثورة والدستور والديمقراطية من جهة ثانية. لكن ما قد يجعلها حربا أهلية هو انتصار شق من التونسيين، بسبب حسابات معينة وبسبب مشاعر الضغينة ضد الثوريين والديمقراطيين، لعملاء زعماء الثورة المضادة من العربان والفرنسيس.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات