ما مشروعنا الوطني؟ (1/2)

Photo

أوّلا- هل لدينا مشروع وطني؟

لم يعد لنا مشروع ثقافي وحضاري ولا مشروع وطني: يعلم الجميع أن الثورة التونسية قد اندلعت وهي مفتقدة لنظرية ثورية توجهّها سياسيا واجتماعيا وثقافيا. فكان أن صيغ ما يشبه دليل العمل الثوري بشكل شبه جماعي، تم اختراقه من قبل حتى أن ينطلق، بدءا بهيئة ابن عاشور ذات الاسم الطويل(طول بلا غلة). هذا الدّليل ينصّ على انتخاب مجلس تأسيسي وكتابة دستور جديد، وإحداث جملة من الهيئات الدّستورية.

وكلكم تعرفون القصة: كُتب الدستور في ثلاث سنوات، وكان في مُجمله شاملا ولقيم الثورة حاملا، رغم ما تبيّن الآن من نقائص فيه. الاختراق الذي تمّ في عملية إعادة التأسيس وفي مرحلة الانتقال الديمقراطي، ويتواصل ويتدعم الآن في مرحلة البناء الديمقراطي، نتج عنه إنجاز بارز وحيد: وهو تكريس لعبة الانتخابات وقدر هام من الحريات العامة، ونتج عنه في المقابل القصور عن تطبيق مسائل مصيرية نص عليها الدستور:

- الباب السابع الخاص بالحكم المحلي (رغم حصول الانتخابات البلدية، ولكنها ما زالت بعيدة جدا عن تكريس روح الحكم المحلّي التشاركي من حيث الصيغة ومن حيث الإمكانات المادية والإجرائية واستبطان روح الحكم المحلي رسميا وشعبيا).

- المحكمة الدستورية، التي بسبب غيابها يحدث الآن خلل كبير في تأويل الدستور يصل أحيانا إلى درجة التحايل المحرّف، وإلى تجاهل بعض أهم مبادئه.

- الاستحقاق الديمقراطي الاجتماعي الذي هو أكبر استحقاق منتظر من الثورة، في سياق بديل تنموي وتربوي وطني سيادي.

وبعيدا عن مجتمع السياسيين، تجري في مجتمع المواطنين أحداث ووقائع وتتشكل وضعيات في غاية الخطورة والبؤس: تعدد حالات الانتحار، تكاثر أعداد الهاربين من وطن لا يرحم، بالهجرة السرية (أو شبه السرية)، تكاثر حالات الطلاق، تزايد جيوش المعطّلين عن العمل، مع هبوط حاد في مؤشر التنمية، وارتفاع لهيب أسعار قوت عموم المواطنين ووسائل الحفاظ على صحتهم البدنية والنفسية.

وبالعودة إلى مجتمع السياسيين، نعاين تجاهلا كليا وأنانيا لمعاناة الشعب وغرقه في لُجّة الفقر والمشاكل المادية والنفسية بأنواعها. لا نرى إلا خصومات وعراكا مرضيّا من القمّة إلى القاعدة مرورا بمؤسسة الحكم المحورية التي هي البرلمان، مع استثناءات يحجبها غبار المعارك التي لا تنتهي. وعوض أن نجد أمامنا تنافسا إيجابيا بين قوى ديمقراطية في خدمة المجتمع، نجد صراعا مرَضيّا بين مكوّنات شكشوكة سياسية سيئة المذاق، تجمع بين الشعبوية والفاشية وبقية مخلفات المنظومة القديمة، والفائزين في الانتخابات ممن يُحسبون ويحسبون أنفسهم على القوى الديمقراطية، في تعارضات وتكاملات مِن أعجب ما يكون.

أما أداء الدولة ككل، فحدّث ولا حرج. حالة من التخبّط والاضطراب وما يشبه الاحتراب. وغياب كامل للعقل الاستراتيجي وللاستشراف ولأيّ ملامح لمشروع وطني جامع.

لم يتعوّد التونسيون على هذا الحضور الباهت للدولة التونسية في قضايا الداخل والخارج معا. ولولا استثناءات قليلة، مثل مجهودات القوى الأمنية وتضحياتهم في سبيل كسر شوكة الإرهاب، وملحمة المعركة الأولى مع الكورونا، رغم ما شابها من نقائص، وبعض إنجازات المرفق القضائي في تكريس مبدإ العدالة ولو لحساب مواطن بسيط في حق بعض أعلى المسؤولين في الدولة، لكدنا نشكّ في وجود الدّولة أصلا.

وفي المقابل، من هذه الناحية، كانت دولة الاستقلال، بعد تجاوز صعوبات وصراعات التّأسيس، قد وُضعت على سكّة واضحة الاتجاه. كانت هنالك مجموعة من المؤشّرات تشير إلى جملة من ملامح لمشروع وطني طموح رسمت ملامحه نخبة الاستقلال بقيادة الزعيم بورقيبة، صُحبة رفاقه، أحمد بن صالح، وأحمد المستيري، والباهي الأدغم، ومصطفى الفيلالي، ومحمود المسعدي، والصادق المقدم، ثم الهادي نويرة، والشاذلي القليبي، ومحمد مزالي وغيرهم…

وقد عثر الزعيم الألمعي الحبيب بورقيبة (سنتجاوز في هذا السياق قصدا عن أخطائه) على جُمَلٍ سياسية معبّرة عن هذا المشروع صاغها لتحلّ مباشرة في وجدان عموم الشعب، بكل بساطة ووضوح، فكان يبشّر ب"فرحة الحياة"، عقب طيّ صفحة الموت الذي كان يتهدّد التونسيين تحت نير الاستعمار المباشر، أو بمفعول الأوبئة والأمراض وسوء التغذية. كما كان كثيرا ما يخطب في توجيهاته الرئاسية داعيا التونسيين إلى "اللحاق بركب الحضارة". وكان خطابه لا يخلو من مفردات " التقدم" و"العلم" و"العقل" الذي يسمّيه بلغة الشعب "المادة الشخمة" أو "الشخماء". واضح أن بورقيبة كان ينهل من معجم الحداثة، ولنَقُلْ التحديث، وكان يمتح من تراث المدنية الغربية وفلسفة الأنوار، لولا تجاهله للمعنى المواطني للحرية بعد قيادته لما اعتبره نصرا كبيرا في التحرر من الاستعمار. وانطلقت في هذه الأجواء الفكرية السياسية للزعيم ورفاقه عمليةُ بناء وطني للمؤسسات والإدارات والمدارس والمستوصفات، فضلا عن إحداث مؤسسة الإذاعة والتلفزة الوطنية، لتكون أداة لتحقيق انسجام وجدان الشعب مع التفكير السياسي لزعامته، ووُضِعت ملامح هندسة ثقافية يشرف عليها بورقيبة نفسه، بداء بـ"توجيهات الرئيس" اليومية، التي كانت عبارة عن برنامج تكويني تثقيفي للشعب، وبلغة علم الاجتماع: لتلقينه وإشباعه بمفاهيم الإيديولوجيا الرسمية للدولة، ومفرداتها وتصوّراتها، فكان بورقيبة يعيد رواية التاريخ الحضاري والسياسي بحسب وجهة نظره وكان يعلّم الشعب مبادئ المدنية وأساليب العيش الحديث، بما في ذلك النظافة والصحة الإنجابية وتحديد النّسل، وكان يقاوم العروشية ويبني مفهوم الدولة- الأمة...الخ. ويبني "شيئا متينا" « quelque chose de solide » ، كما يقول هو.

وتم تأثيث بقية البرامج التلفزية الإذاعية بمضامين تبعث على البهجة والانشراح، مثل برنامج "ڨافلة تسير" وأغاني السيدة عُليّة والسيدة نَعمه، وسيدي علي الرياحي، وتمثيليات وسكاتشات أم تراكي واحميده وهناني، وشاناب، والمسلسل الإذاعي"صور من الحياة" وفيه فوائد وعبر اجتماعية هامة، وحكايات عبد العزيز العروي المشبعة بالحكم الشعبية والعبر الأخلاقية والحياتية، والبلاغات المحلية لعبد العزيز بوديدح، ومسلسلات عن الكفاح الوطني وسير أبطال مثل الدغباجي والبشير بن سديرة، ومصباح الجربوع...الخ.

وكانت السينما أيضًا في خدمة هذا المشروع الوطني، فقد أنتج عُمار الخليفي، الأب الروحي للسنما التونسية، أوّل فيلم تونسي لحما ودما يحكي ملحمة الكفاح والاستقلال سنة 1966، و كان عنوانه "الفجر" رمزًا لفجر الاستقلال والتحرر من الاستعمار، وفي شهادة لعُمار الخليفي على إحدى الإذاعات قبل وفاته بسنة تقريبًا، حكى كيف استقبله بورقيبة في القصر بعد مشاهدته للفيلم، ليعبّر له عن إعجابه به، وأهداه ثمانين ألف دينار من دفتر شيكاته وطلب منه الاتصال بوزير الإعلام ساعتها من أجل إنتاج فيلم آخر عن تجربة بناء بناء الدولة الوطنية، فكان ذلك حافزًا لإنتاج فيلم "التحدّي" سنة 1986، بعد أفلام "المتمرّد" و"الفلاڨة" و"صراخ".

والتفت بورقيبة إلى الخارج فعزّز مكانة تونس في المحافل الدولية وأكسبها سمعة منقطعة النظير.

وتصدّى في الداخل لرهان الصحة (بناء المستوصفات وتجهيزها بالأدوية المجانية، وتنظيم حملات التلقيح، خاصة في الوسط المدرسي، ومقاومة الأمراض المعدية، مثل الرّمد والقرع والجرب والكَلَب..الخ). كما تصدّي لرهان التعليم، ووضع له أهدافا واقعية تستجيب لحاجات بناء دولة الاستقلال، من تكوين الإطارات والحرفيين، وتونسة الإدارة وعصرنتها...الخ.

"الحاصل معناها" ، كما يقول بورقيبة، كانت تونس عبارة عن ورشة عمل وبناء وطني ضخمة، تحشد الطاقات وتُضفي معنى على حياة المواطن، وأصبح بإمكان مواطنين عاديين وأبناء فلاحين وحرفيين صغار أن يصبحوا معلمين وأساتذة وأطباء ومهندسين وضبّاط في الأمن وفي الجيش الوطني، وحتى من رجالات الدولة ومسؤوليها الكبار، رغم ما تكرّس من تمييز سلبي بين الجهات. ولكنه لم يكن يمثل مشكلة كبيرة لعموم الشعب أنذاك، بالمقارنة مع الحالة التي كان عليها تحت حكم الاستعمار المباشر.

ليس في نيتنا سرد مجرّد وقائع تاريخية والاسترسال فيها إلى اللحظة الحاضرة، ولكن حسبنا أن نرسم بشكل عام، مع بعض التفاصيل والأمثلة الدالة، ملامح ما كان عليه ما يمكن اعتباره "مشروعا وطنيا" لدولة الاستقلال، وهندسة ثقافية للوعي الشعبي والاجتماعي، لنقارنه بما آل إليه أمرنا في واقع الحال. وقد سبق أن تحدثنا في هذا الواقع المرير الذي تسوده الفوضى والتردّد والذي يتّسم بضعف الدولة وضعف قدرتها على الاستشراف والتخطيط، وبالصراعات وبتداخل الأجندات وتفاهة الرّهانات.

لقد ظنّ الكثيرون منا أن الدستور وما يحمله من مبادئ ووعود، من خلال تعابير من قبيل" تتعهد الدولة بكذا..." و"تعمل الدولة على كذا..."، و" تسعى الدولة إلى كذا..."، هو بمثابة المشروع الوطني الجامع، خاصة وأنه قد حاز إجماعا كبيرا جدا من قبل أعضاء المجلس التأسيسي، لكن عند التطبيق، ظهر قدر كبير من سوء الفهم، وربما حتى من سوء النية، ومن الثغرات والفجوات في الوعي العام وفي الإرادة السياسية وفي الرؤية العملية الموجهة وفي سلم الأولويات.

والنّتيجة هي أن الدستور، خلافا، لما ظنناه، لن يعوّض عملا كبيرا يجب أن يقع في مستوى الفكر السياسي والثقافي والاجتماعي والتنموي وفي مستوى بناء الوعي المواطني ورسم الأولويات الوطنية، وفي كلمة واحدة في صياغة مشروع وطني جامع، مسنود بمشروع حضاري وثقافي أصيل.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات