أشارك بهذا النص فكريا في الحوار الجاري حاليا حول بروز يسار أكاديمي منفتح على الظاهرة الدينية، وذلك من خلال إبداء الملاحظات التالية:
- الملاحظة الأولى:
لقد فهم بعض اليساريين المتسلحين بالمعرفة التاريخية والسوسيولوجية أن معركة استئصال الدين (أفيون الشعوب) من مجتمعات يقع الدين ضمن نواة شخصيتها القاعدية ومقدساتها الجماعية، مهما كان تصورها له متسامحا، مثل المجتمعات الإسلامية عموما والمجتمع التونسي خصوصا، معركة خاسرة. جرب بورقيبة هذا الأمر زمن الاستعمار لما استخفّ بفريضة الصوم فقُذف بالطماطم (انظر كتاب محمد صالح الهرماسي، عن إشكالية الهوية في المغرب العربي المعاصر) وحاول ذلك ثانية بعد الاستقلال وباءت محاولته مجددا بالفشل، فخطب في الناس متراجعا ومخيرا لهم بين الصوم في رمضان أو الإفطار فيه، وحاول بن علي ومكنته من اليسار الاستئصالي في الحكم التضييق على مظاهر وأنشطة التدين في المجتمع وفشل في ذلك…
- الملاحظة الثانية:
فهم هؤلاء اليساريون الأكاديميون أن المجاهرة بما تقتضيه الجدلية المادية في المجتمعات الإسلامية من أن الدين خرافة وأداة بيد الإقطاع والبرجوازية لتخدير الشعوب يحرمهم من كل أمل في الفوز في أي انتخابات ديمقراطية بنسبة تمكنهم من الحكم، فقرروا الاحتفاظ بتلك القناعة لأنفسهم والكف عن محاولة ترويجها في عموم الناس واستقر رأيهم على إقرار الناس على ما هم عليه من القناعات الدينية بناء على "القراءة العلمية" للواقع، ريثما تنضج الظروف المجتمعية ليتحول الناس بمحض إرادتهم عن حالة التدين إلى طور الوعي المادي الجدلي.
تفاقمت هذه القناعة لدى هذه الفئة من اليساريين خاصة مع الحدث الكوني المتمثل في "طوفان الأقصى" الذي جلب تعاطفا عالميا مع المقاومة الفلسطينية المستندة إلى مرجعية دينية إسلامية لاستيطان الكيان للأرض العربية. أثبت الدين المقاوم هنا أنه يقظة وطنية وقومية وإنسانية وليس أفيونا مخدرا للشعوب وأنه يقود رمزيا العالم بأسره ضد رأس حربة الإمبريالية في الوطن العربي وضد أبشع أنواع التوحش الذي عرفته البشرية على مر العصور.
- الملاحظة الثالثة:
حصل تحول في صفوف مجموعة من اليساريين الأكاديميين في اختصاص الحضارة والتاريخ في طريقة تناولهم للموضوعات ذات الصلة بالرموز الدينية، في اتجاه موقف نقدي من المنهج الاستشراقي الكولونيالي في دراسة تلك الموضوعات، بما يترك انطباعا لدى المطلعين على أعمالهم البحثية أنهم أصبحوا يتكلمون ويحللون من داخل دائرة الانتماء الحضاري لا من موقع الانتماء للأممية الاشتراكية(انظر مثلا أعمال حسن بزاينية حول السيرة النبوية) كما أصبحوا يتدربون على هجر المقاربة الوضعانية للدين وتطبيق المنهج الفنومنولوجي التفهمي للوقائع والظواهر الدينية(انتبه مثلا إلى مقاربات وتصريحات أستاذ الحضارة بالجامعة التونسية نادر الحمامي أحد تلامذة الأستاذ عبد المجيد الشرفي). يقول نادر الحمامي العلماني جدا في حوار أدلى به لمركز حوار الثقافات : "سيبقى الناس مؤمنين بما آمنوا به دائماً، ولن يمس ذلك عقائدهم أبداً، بل إنه من الغباء فعلاً الاعتقاد بأن مجتمعاً ما يمكن جعله خالياً من عقائده الدينية، والأكثر غباء سعي البعض إلى إفراغ المجتمع من تمثلاته الدينية، أو إلى الاستخفاف بها أو وضعها موضع استهزاء".
وبين قوسين: تحول عدد من الباحثين في الفلسفة من حالة باحثين مابعدكولونياليين وظيفيين إلى حالة باحثين ديكولونياليين، يتقدمهم رئيس قسم الفلسفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس الأستاذ صالح مصباح.
ولا شك أن الكثيرين قد تابعوا حوار الإعلامي عامر عياد مع الباحث اليساري مولدي القسومي على قناة الزيتونة وتأكيده على عبثية محاولة ثني المجتمع في البلاد الإسلامية عن توجهه نحو الدين وإشارته إلى مشاركته في إعداد لائحة المسألة الدينية في مؤتمر الوطد سنة 2012 التي جاء في ديباجتها: "يشكل الإسلام مقوما أساسيا في هوية شعبنا وعنصرا أساسيا في ثقافته العربية الإسلامية الجامعة لروافد أصلية…الخ".
أما بقية اللائحة فهي هجوم على "أحزاب وتيارات سياسية تتستر بالدين صلب الحكم وخارجه وانتظمت في مجاميع منظمة وميليشيات مرتبطة بجمعيات يرتبط جزء منها بدول أجنبية…الخ". وهذا الجزء الثاني الأطول في الوثيقة تجاهله الڤسومي في حديثه عنها مع عامر عياد على قناة الزيتونة (انظر استراتيجيات الإخفاء والإظهار في "لعبة المعنى" وإعادة بنائه، لدى علي حرب).
انطلاقا من هذا التقييم للمسألة الدينية والاقتناع بتجذر الدين في وجدان الشعب وبالقيام بحسابات الربح والخسارة في كيفية تعامل اليسار التونسي مع هذه الحقيقة السوسيو-ثقافية اقتنع هؤلاء الأكاديميون أصحاب العقل الحاسوب بأنه من العبث مواصلة محاربة "أفيون الشعوب" وترك الاستثمار في هذا الأفيون للإسلام السياسي ليحصد به الإسلاميون الأصوات ويحققوا به الانتصارات في الانتخابات وأن الحكمة تقتضي الكف عن الاستهزاء بالسلوك المتدين بما يمنع تفاقم النزعة الحمائية الانغلاقية على العقائد والتصورات الدينية (لنتذكر الأثر العكسي لفلم برسيبوليس قبل انتخابات 2012).
ووجد هؤلاء اليساريون الأكاديميون الحل في تبني علمانية استيعابية، أي تستوعب المسألة الدينية وتهضمها باعتبارها أولا معطى مجتمعيا ثابتا، وأملا، ثانيا، في ذوبانها أو تراجعها إلى حالة الضمير الفردي بمرور الوقت وتجذر نموذج الدولة العلمانية (الاستيعابية) التي ستعمل على نشر القيم التقدمية والحداثية تدريجيا وبمرونة بحيث لا تتسبب في أي ردود أفعال عكسية.
ولذا إذا قيمنا هذا الاتجاه اليساري الجديد نحو المسألة الدينية والتعايش مع الإسلام السياسي الذي يطالبه هؤلاء اليساريون بالقيام بمراجعات (لنتجاوز عثرة الوثيقة الفكرية التأسيسية التي وقع فيها القسومي، وجهله أو تجاهله لتعويضها بوثيقة أخرى في المؤتمر العاشر، دعيت شخصيا مع مجموعة من الإسلاميين التقدميين التاريخيين من خارج النهضة، إلى مراجعتها ومزيد ترشيدها) فسندرك أن هذه المراجعة ليست مراجعة ديمقراطية بالمعنى الأصيل للكلمة فهي لا تقوم على أساس الاعتراف العميق بالحق في الاختلاف والاحترام اللامشروط للمختلف، بل على الالتفاف على الاختلاف بطريقة تشبه التقية لدى الشيعة (تقية شيوعيين هذه المرة) بتذويبه بمنهج ظاهرة التفهم وحقيقته الإذعان المؤقت لواقعة التدين والمحافظة لدى عموم الشعب. فهو تقريبا نفس بنية المنهج الذي يتبناه الإسلاميون إزاء المقاومة شبه العلمانية التي يبديها عموم الشعب لتطبيق الشريعة الإسلامية، بحكم تعوده على العيش بنمط تحرري ليبيرالي مختلط بمشاعر دينية وعلاقة متسامحة مع الشعائر الدينية. وهو منهج الصبر على هذا الشعب حتى يقتنع تدريجيا بالشريعة الإسلامية نظاما للحكم (انظر القسم الأخير من كتاب "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" لراشد الغنوشي ).
اليساريون الأكاديميون الجدد يتبنون نفس هذا المنهج ولكن في الاتجاه المعاكس، وذلك من خلال مقولة العلمانية الاستيعابية التي ستصبر على الشعب حتى يخرج من مرحلة الوعي الميتافيزيقي والفكر الغيبوي إلى مرحلة الوعي الجدلي المادي والفكر العلمي الوضعاني.
يتبنى الإسلاميون هذا المنهج المرن انطلاقا من قناعتهم أن الإسلام هو عقيدة الشعب وضميره الجمعي، وأنهم "يلعبون على أرضهم" وهو منهج يمكن تسميته بالإسلامية الاستيعابية أي المستوعبة مؤقتا لبعد المجتمع عن نمط العيش وفق أحكام الشريعة، بينما يتبنى اليساريون الأكاديميون الجدد العلمانية الاستيعابية التي تتغاضى مؤقتا عن هذا الشعور الديني الماقبل حداثي ريثما يحصل تطور تلقائي نحو الوعي الحداثي، ويعتبرون أنفسهم يلعبون على أرض دولتهم المائلة إلى العلمنة منذ أن أغلق بورقيبة جامعة الزيتونة وألغى المحاكم الشرعية وصاغ مجلة الأحوال الشخصية واعتمد القانون الفرنسي الحديث بديلا عن المحاكم الشرعية.
بين هذين الطرحين اقترحنا سبيلا ثالثة في كتابنا "الإسلام والحداثة السياسية: بناء العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان"، أي بناء حداثة سياسية أصيلة من داخل ممكنات العقل الثقافي الإسلامي المجدد في طور ختم النبوة، ولا استيرادها جاهزة من الغرب. وفي هذه المحاولة صغنا مفهوم العلمانية المؤمنة التي لا تعني "فصل الدين عن الدولة" ، وإنما "رفع السلطة الدينية عن رأس الدولة"، فلا يتحكم أحد بخيارات الدولة والمجتمع باسم الله، أو حتى باسم السّهر على إنفاذ أوامر الله ، إذ أن هذه الأوامر يختلف فهمها من عالم إلى آخر ومن سياق إلى آخر ومن زمن إلى آخر. بل تُدار هذه الخيارات على قاعدة رعاية المصلحة والأخذ بالأسباب الموضوعية. ولذا فنحن نوافق أحمد خلف الله في تعريفه للعلمانية على أنّها «حركة فصل السلطة السياسية والتنفيذية عن السلطة الدينية، وليست فصل الدين عن الدولة»، وهذا ما يجعلنا بنفس المناسبة نفرق العلمانية المؤمنة عن العلمانية الجزئية التي تحدّث عنها المرحوم المسيري والتي يعرفها بكونها « فصل الدين عن الدولة ».
فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية، يقوم بداهة على التمييز المبدئي بين هذين النوعين من السلطة –الذين تقوم بينهما مع ذلك علاقات موضوعية -، وهو يندرج فيما سمّاه ألفراد ستيبان Alfred Stepan بـ«التسامح المزدوج » ، ويقصد به التسامح المتبادل: تسامح الدولة مع الدين واعترافها به ظاهرة روحية واعتقادية فردية وجماعية- مجسّدة من خلال أشكال تعبيرية طقسية وثقافية معينة- وتسامح المتدينين مع الدولة بتفويض كامل السلطة السياسية لها، مع الاحتفاظ بحق المشاركة في الحياة السياسية-بما هم مواطنون أفرادا أو منخرطون في فعاليات المجتمع المدني- والتأثير غير المباشر في السياسات المتبعة بما يتوافق مع القوانين الجاري بها العمل.
تهدف العلمانية المؤمنة إلى بناء دولة مدنية تقوم على القانون والمؤسسات، وترسي الأسس القانونية والمادية لمجتمع ديمقراطي يحترم التعددية والاختلاف، وتكفل حق المؤمنين- على مختلف أديانهم، أفرادا وجماعات- في إيمانهم وفي ممارسة مقتضيات ذلك الإيمان روحيا وثقافيا وماديا، ما دامت لا تلحق الضّرر المادّي أو المعنوي بالمجتمع- وهي بهذا تختلف عن العلمانية اليعقوبية المعادية منهجيا للدين- كما تضمن لكل المواطنين مهما كانت قناعاتهم الشخصية، الدينية والسياسية والفكرية، الحصول على كل الحقوق التي أقرّها البيان العالمي لحقوق الإنسان، لأنّ تلك الحقوق جاءت معبّرة عن الكرامة والحرية الإنسانية التين أشاد بهما القرآن الكريم للناس كافة ذكورا وإناثا.