بين براثن الانحراف و ضياع المستقبل الدراسي

في حي شعبي في واد مليز من ولاية جندوبة ، يجلس "وسيم" ذو الأربعة عشر عامًا أمام دكان صغير و نظرة حزينة تبدو على وجهه، يراقب المارة بدل أن يلتحق بالمدرسة بعد ايام من العودة المدرسية . وسيم انقطع عن الدراسة منذ سنتين، بعد سلسلة من الرسوب، ثم انسحاب صامت لم يلحظه أحد باستثناء عائلته المصغرة. قصته ليست استثناء، بل جزء من ظاهرة تتفاقم عامًا بعد عام: الانقطاع الدراسي المبكر.

أرقام رسمية لسنة 2025

وفقا لـمشروع الأداء السنوي لوزارة التربية لسنة 2025:

- بلغت نسبة الانقطاع المدرسي في المرحلتين الإعدادية والثانوية 8%.

- الوزارة تتوقع انخفاضا طفيفا إلى 7.6% خلال السنة الدراسية الحالية.

- برنامج "الفرصة الثانية" يستهدف الفئة العمرية بين 12 و18 سنة، ويهدف إلى إعادة إدماجهم في المسار الدراسي أو المهني.

كما كشف التعداد العام للسكان لسنة 2024 أن نسبة الأمية في تونس بلغت 17.3% لدى الأفراد الذين يبلغ سنهم 10 سنوات فما فوق، وهي نتيجة مباشرة للانقطاع المبكر عن التعليم.

تصريحات رسمية لسنة 2025

في يوم دراسي نظّمته شبكة التربية والتكوين والبحث العلمي بالتعاون مع المرصد التونسي للتعليم، صدرت تصريحات حديثة للسيد حاتم الجلاصي، رئيس شبكة التربية"دراستنا لسنة 2025 أظهرت أن أكثر من 60 ألف تلميذ في السنة الرابعة ابتدائي يعانون من ضعف شديد في المستوى، مما يجعلهم عرضة للانقطاع في السنوات القادمة".

كما أفاد السيد مصطفى الفرشيشي، رئيس المرصد التونسي للتعليم"كثرة تداول الوزراء على وزارة التربية دون وجود رؤية أو أهداف منجزة جعلت الإصلاح مستحيلا، والمنقطعين مجرد أرقام في تقارير رسمية".

تبعات الانقطاع الدراسي المبكر، ألم يتعدى المدرسة

الانقطاع المبكر لا يُقاس فقط بعدد المقاعد الفارغة، بل بما يترتّب عنه من هشاشة نفسية، تفكك اجتماعي، وتراجع اقتصادي يمسّ الفرد والمجتمع على حدّ سواء.

على المستوى النفسي

الطفل المنقطع غالبا ما يشعر بأنه "غير نافع"، خاصة إذا كان الانقطاع مسبوقا برسوب أو عنف رمزي داخل المدرسة. هذا الشعور يترسّب في شخصيته، ويؤدي إلى

- انخفاض تقدير الذات، وفقدان الثقة في القدرات.

- اضطرابات سلوكية مثل الانطواء أو العدوانية.

- عزوف عن التعلم مدى الحياة، حتى في سياقات غير رسمية أو مهنية.

دراسة ميدانية أنجزها الباحث مصباح الشيباني بيّنت أن فشل التلميذ في الاندماج داخل الوسط المدرسي، سواء بسبب العلاقات التربوية أو البيئة المادية، هو من الأسباب المباشرة للانقطاع، ويؤدي إلى هشاشة نفسية طويلة الأمد.

على المستوى الاجتماعي

المنقطعون عن الدراسة يصبحون أكثر عرضة للانفصال عن شبكات الدعم الاجتماعي، مما يخلق :

- عزلة مجتمعية، خاصة في المناطق الريفية أو المهمّشة.

- ارتفاع قابلية الانحراف، حيث تشير شهادات ميدانية إلى أن بعض المنقطعين ينزلقون نحو الجريمة أو تعاطي المخدرات في سن مبكرة.

- إعادة إنتاج الفشل عبر الأجيال: الطفل المنقطع اليوم قد يصبح وليّا عاجزا عن دعم تعليم أبنائه غدا، مما يكرّس الحلقة المفرغة.

على المستوى الاقتصادي

الانقطاع الدراسي يضعف رأس المال البشري، ويؤثر على الإنتاجية الوطنية.

- نسبة البطالة في تونس بلغت حوالي 16% سنة 2025، لكن بين أصحاب الشهادات تصل إلى 30%، مما يدفع البعض إلى اعتبار التعليم "غير نافع"، ويؤثر على قرار الاستمرار فيه.

- المنقطعون غالبا ما ينخرطون في وظائف غير مستقرة، أو في القطاع غير المنظم، دون حماية اجتماعية أو آفاق تطور.

- ضعف التأهيل يحدّ من فرص الابتكار، ويؤثر على تنافسية الاقتصاد الوطني في المدى الطويل.

مراجعة مناهج التعليم بين الجمود والضرورة

المنظومة التربوية التونسية ما تزال تعتمد على مناهج و برامج تقليدية، تركّز على الحفظ والتلقين، وتغفل عن تنمية التفكير النقدي، المهارات الحياتية، والذكاء العاطفي. هذا الجمود في المحتوى التربوي يُعدّ من الأسباب الرئيسية للانقطاع المبكر، خاصة في ظل غياب التكييف مع الواقع الاجتماعي والنفسي للتلاميذ.

في سنة 2025، أطلقت وزارة التربية سلسلة من الإجراءات المرتبطة بـالتوجيه المدرسي والمواد الاختيارية، تهدف إلى منح التلميذ مساحة أكبر للاختيار والتكيّف مع طموحه وقدراته. لكن هذه الإجراءات، رغم أهميتها، تبقى جزئية ولا تمسّ جوهر المناهج و البرامج كما و كيفا.


• غياب التعددية البيداغوجية.

• ضعف الربط بسوق الشغل .

• غياب التربية على المواطنة والحقوق .

• رقمنة شكلية دون رؤية تربوية واضحة.

شهادة من مربّية في معهد ثانوي بتونس العاصمة، "البرنامج مليء، لكن فارغ من الحياة. التلميذ يحفظ، ينسى، ثم يخرج. لا يتعلم كيف يفكّر، كيف يعبّر، كيف يواجه الحياة."

-شهادات حيّة من الميدان

سعاد، 42 سنة، أم لطفل منقطع عن الدراسة في منطقة الغابات من ولاية القيروان، "ولدي ما عادش يحب المدرسة، يقول ما يفهم شيء، والمعلم يصرخ عليه. حاولت نرجّعه، لكن ما لقيتش حتى دعم نفسي أو توجيه. حسّيت روحي وحدي، وكأنو فشل ولدي هو فشلي أنا."

منير، مربّي في مدرسة ابتدائية بسيدي ثابت"نشوف تلامذة يجيو بلا فطور، بلا أدوات، وبلا تركيز. بعضهم ينام في القسم، والبعض الآخر يهرب. المنظومة ما تعطيهمش تحفيز أو فرصة ثانية، وكأنها تقولهم اللي ما ينجح من الأول، يخرج."

آمنة، 17 سنة، مستفيدة من برنامج الفرصة الثانية في تونس العاصمة، "كنت نحس روحي ضايعة، كي رجعت عبر البرنامج، لقيت ناس تسمعني، وتعلّمني حاجة تنفعني. ما رجعتش للمدرسة، لكن تعلمت حرفة، واليوم نخدم ونحلم نفتح مشروعي الخاص."

مقترحات 2025 هل تكفي و متى تدخل حيز التنفيذ ؟

من بين الحلول التي طُرحت خلال اليوم الدراسي:

- إحداث أقسام دعم لتلاميذ السنة الخامسة.

- تطوير شعب التكوين المهني وربطها بسوق الشغل.

- مراجعة زمن التعلم وتكييفه مع حاجيات التلاميذ.

- تعميم مكاتب الإصغاء لتحديد التلاميذ المهددين بصفة استباقية وتقديم الدعم اللازم.

بين الغياب والاحتمال

الانقطاع الدراسي المبكر ليس مجرد انسحاب من مقعد الدراسة، بل هو انسحاب من الحلم، من الأمل، ومن الحق في مستقبل كريم. الأرقام الرسمية لسنة 2025 تكشف حجم الأزمة، لكن الشهادات الحيّة تفضح عمقها الإنساني.

في ظل غياب رؤية تربوية دامجة، وتفاوت الفرص بين الجهات، يبقى الطفل المنقطع ضحية منظومة لا تسمع صوته. لكن برامج مثل "الفرصة الثانية"، رغم محدوديتها، تفتح نافذة صغيرة نحو إعادة الإدمان و المدرسة التونسية اليوم مطالبة بأن تكون أكثر من جدران وسبورة، أن تكون حضنا، فرصة، ومسارا نحو الكرامة. لأن كل طفل يُنقذ من الانقطاع، هو بذرة إصلاح، ولبنة في بناء وطن لا يترك أحدا ضائعا خلفه.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات