فقدان الأدوية في تونس بين التهريب و الحرمان من الحق في العلاج

في صيدلية صغيرة بحي شعبي في العاصمة، تقف سيدة مسنّة حاملة وصفة طبية لأدوية القلب، تهمس للصيدلي: "هل هذا الدواء متوفر أو هل عندك شيء بديل؟ هذا الدواء مفقود منذ شهرين". هذه الجملة، التي تتكرر يوميا في آلاف الصيدليات، تلخص أزمة فقدان الأدوية التي تعصف بتونس منذ 2024، وتكشف عن شبكة معقدة من الأسباب، منها التهريب المنظّم نحو دول الجوار.

الأسباب البنيوية لفقدان الأدوية في تونس

وفقا لتحليل نشرته جريدة الصحافة اليوم بتاريخ 5 أوت 2025، فإن الأسباب الرئيسية تشمل:

- اضطرابات في الإنتاج المحلي .

بعض المصانع تواجه صعوبات في التزود بالمواد الأولية، خاصة مع تقلبات سعر الصرف وارتفاع تكاليف الاستيراد.

- ضعف التنسيق بين الجهات المعنية .

غياب منصة مركزية فعالة لرصد المخزون وتوقع النقص أدى إلى تأخر الاستجابة، كما ورد في تصريح الدكتور شكري حمودة، لوكالة رويترز.

- الاعتماد المفرط على الاستيراد .

رغم أن تونس تصنع 80% من حاجياتها من الأدوية، إلا أن الأدوية المصنعة محليا لا تمثل سوى 58% من التكلفة بسبب ارتفاع ثمن الأدوية المستوردة، وفقا لبيان وزارة الصحة بتاريخ 10 أوت 2025.

- غياب الشفافية في التصريح بالمخزون .

بعض المصنعين لا يصرّحون بمخزونهم بشكل منتظم، مما يعقّد عملية التنبؤ بالنقص، وفقا لتصريح قديم للدكتور عبد الرزاق الهذيلي، المدير العام للوكالة الوطنية للدواء، في إذاعة الوطنية بتاريخ 19 ديسمبر 2024.

- التهريب المنظّم نحو دول الجوار.

في ظل ندرة بعض الأدوية في الجزائر وليبيا، نشأت شبكات تهريب تستغل هشاشة الرقابة الحدودية.

- في جويلية 2025، أعلنت إذاعة أوليس اف ام عن الاحتفاظ بـ6 أشخاص من الذهيبة وبن قردان ينشطون في تهريب الأدوية نحو ليبيا، بعد إشعار من أحد المواطنين.

- كما كشفت جريدة الشروق التونسية في تقرير بتاريخ 18 جويلية 2024 عن عمليات سطو على كميات ضخمة من الأدوية من تونس وتهريبها إلى ليبيا عبر الحدود الجنوبية.

- من جهة أخرى، أوردت الشروق الجزائرية أن فصيلة الأبحاث للدرك الوطني بقسنطينة أحبطت عملية تهريب أكثر من 8000 علبة دواء من تونس نحو الجزائر، تشمل أدوية الحساسية، العقم، الجرب، وأدوية الأطفال، بقيمة فاقت 1.4 مليار دينار جزائري.

موقف وزارة الصحة: بلاغ رسمي وتوضيحات

في بلاغ صادر بتاريخ 24 أوت 2025، أوضحت وزارة الصحة أن الاستراتيجية الوطنية للدواء تقوم على:

- ضمان ديمومة المخزون الاستراتيجي .

- تشجيع وصف الأدوية المسجّلة والجنيسة .

- تأمين وصول المرضى إلى كلّ العلاجات الضرورية .

كما شددت الوزارة على أن ترشيد استعمال الأدوية لا يعني حرمان المرضى من العلاج، بل حسن استعمال الدواء بالكمية والمدة اللازمة، لضمان فعاليته.

الأثر على المرضى بين السوق السوداء واليأس.

في تونس، لم يعد فقدان الأدوية مجرد أزمة تقنية أو إدارية، بل تحوّل إلى مأساة إنسانية حقيقية. في أوت 2025، شهد المجتمع حالة من الغضب الشعبي بعد وفاة شابين من مرضى السرطان بسبب عدم توفر العلاج الكيميائي:

- حسام الحرباوي، شاب في الثلاثينات من عمره، قضى أكثر من شهرين دون تلقي العلاج، بعد أن رفض الصندوق الوطني للتأمين على المرض (الكنام) التكفل بنفقات علاجه. كتب قبل وفاته تدوينة مؤثرة عبّر فيها عن خيبة أمله من المنظومة الصحية، وتناقلتها وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي على نطاق واسع.

- حسين العبودي، مهندس شاب، نشر مقطع فيديو قبل وفاته أوضح فيه أنه يواجه المرض للمرة الثالثة، وقد انتظر أكثر من ثلاثة أسابيع ردًّا من "الكنام"، ليتلقى بدوره رفضا. الفيديو أثار موجة من التعاطف والغضب، ودفع العديد من النشطاء إلى المطالبة بمحاسبة المسؤولين.

وفاة الشابين أعادت إلى الواجهة النقاش حول الحق في العلاج، ودفعت وزارة الصحة إلى إصدار بلاغ رسمي تصف فيه النقص بأنه "ظرفي"، وتعلن عن خطة وطنية لمجابهة الظاهرة.

أرقام تكشف عمق الأزمة.

- تونس تصنّع 3168 دواء جنيسا و46 دواء من البدائل الحيوية، وفقا لتصريح الهذيلي لـفرانس 24 بتاريخ 22 ماي 2025 .

- هناك 2300 صيدلية و70 موزّعا، مما يصعّب مراقبة المسالك .

- نسبة الأدوية الجنيسة في السوق التونسية بلغت 44%، والهدف هو الوصول إلى 70%، حسب تصريح الهذيلي لـباب نت بتاريخ 24 سبتمبر 2024

بعض الحلول

- تفعيل نظام تتبع رقمي للأدوية من المصنع إلى الصيدلية .

- إنشاء وحدة تحقيقات مشتركة بين وزارة الصحة والديوانة لمكافحة التهريب .

- مراجعة أسعار الأدوية المحلية لتقليل الفجوة مع السوق السوداء .

- إشراك المجتمع المدني في مراقبة توزيع الأدوية، خاصة في المناطق الحدودية .

- إنشاء مرصد وطني مستقل للأمن الدوائي، يضمن الشفافية ويصدر تقارير دورية.

في بلد يُفترض أن يكون فيه العلاج حقا دستوريا، يتحوّل الدواء إلى سلعة نادرة، تُهرب عبر الحدود وتُباع في السوق السوداء، بينما يقف المواطن عاجزا أمام رفوف فارغة. الأزمة ليست فقط صحية، بل أخلاقية، وتستدعي مساءلة وطنية شاملة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات