إفلاس الدّولة: أسبابه و آليّات الخروج منه

لم يعد يخفى على أحد أن الماليّة العموميّة تعيش ضائقة غير مسبوقة في تاريخ تونس الحديث. هذه الوضعيّة تحيلنا بصورة منطقيّة على التّساؤل حول إحتمال الإفلاس و المرور عبر "نادي باريس" لإعادة جدولة الدّين العام.

* ما هو إفلاس الدّولة ؟

إفلاس الدّولة هو ببساطة شديدة عدم قدرة هذه الإخيرة على تسديد ديونها في الآجال المُتّعاقد عليها.

* لماذا يحدث الإفلاس؟

في الحقيقة يحدث الإفلاس لسببين: (أ) بسب عدم توفّر السّيولة الكافية (illiquidity) وقت يحين تسديد الدّين و (ب) أن تكون الدّولة في حالة إعسار (insolvency). حالة عدم توفّر السّيولة تعني أنّه رغم أن الدولة لا تزال هيكليًّا قادرة على تسديد ديونها إلاّ أنّها مجبرة على إعلان الإفلاس لشحّ السّيولة جرّاء عوامل مثل توقف الدّائنين بصفة مفاجئة عن إقراضها. أمّا الوضعيّة الثّانية فهي تعني أنّ الوضعيّة الماليّة الرّاهنة و المستقبليّة للدّولة لم تعد تخوّل لها مُطلقًا تسديد ديونها .

* ماذا يحدُث عند الإفلاس؟

عند إعلان الإفلاس يكون الوقت قد حان لإعادة جدولة الدّين العامّ (نادي باريس). إعادة الجدولة تعني أساسًا التّوصّل لإتّفاق مع الدّائنين على كيفيّة خلاص الدّيون. هذا الإتّفاق يمكن أن يعني إمهال الدّولة أكثر وقتًا لتسديد ديونها مع\أو إمكانيّة شطب جزء من هذه الدّيون. ما سيقبله الدّائنون يعتمد على سبب الإفلاس (عدم توفّر السّيولة أو الإعسار). في حالة عدم توفّر السّيولة لن يرضى الدّائنون بشطب أي نسبة من المديونيّة (لأنّ الدّولة هي قادرة فعليًّا على الدّفع) و على الحكومة تسديد ديونها كلّها. أمّا في حالة الإعسار فلا غنى عن إعفاء الدّولة المَدينة من دفع جزء من هذه الديون. الغاية من هذا الإعفاء هو التّقليل من خسائر الدّائنين و إرجاع مستوى المديونيّة إلى مستوى يمكن للماليّة العموميّة تحمُّلُهُ.

* من يتحمّل الخسارة المُنجرّة عن شطب جزء من الدّيون؟

الخسارة يتحمّلها بالأساس الدّائنون الخواصّ في الدّاخل و في الخارج لأنّهم في أسفل سُلّم الأفضليّة عند التّسديد. في الدّاخل الخسارة تتحمّلُها البنوك و المستثمرون الخواصّ في السّندات الحكوميّة(1). أمّا في ما يخُصّ الدّيون الخارجيّة فالمستثمرون الذين إشتروا السندات الحكوميّة من أسواق المال العالميّة هم غالبًا من يتحمّلون القسم الأكبر من الخسارة. اللاّفت للنظر هنا هو أنّه من المُتعارف عليه أن قروض الجهات المانحة المُتعدّدة الأطراف (صندوق النّقد الدّولي، ...) ليست معنيّة بالخسارة و على الحكومة إرجاع أموال هذه الجهات كاملة.

*هل يخضع إفلاس الدّولة إلى ضوابط و معايير معروفة مُسبقًا؟

الجواب هو لا. من زاوية قانونيّة بحتة فإنّ إفلاس الحكومات، على خلاف الأفراد و المؤسّسات أين تخضع حالة الإفلاس في كلّ الدّول لقوانين و ضوابط و معايير معروفة، لا توجد آليات رسميّة(2) تحدّد بشكل دقيق الإجراءات المُتّبعة في حالة الإفلاس و يمكن للدّولة إتّباعها تحت حماية و مراقبة القضاء. أيضًا لا يمكن، بأي حال من الأحوال، إسقاط الدّيون الحكوميّة بطريقة أحاديّة(3) لأنّ إقتراض الدّولة من الجهات الخارجيّة يجعل هذا الدّين خاضعًا لقوانين دول الجهات المانحة. لذلك في حالة عدم إيفاء الحكومة بتسديد ديونها الخارجيّة يمكن للدّائنين تتبّع الدّولة تقريبًا في كلّ محاكم العالم و يعتبر من السّهل نسبيًّا الحصول على حكم قضائي يدين الدّولة المَدينة. أيضًا، الدّولة هي كيان يختلف جوهريًّا عن الأفراد و المؤسّسات فيما يخصّ الأصول (Assets). في حالة إفلاس فرد أو مؤسّسة، يمكن للدّائنين، بعد الحصول على أمر قضائي، حجز أوصول الجهة المدينة و بيعها لإستخلاص الدّين. هذه العمليّة هي تقريبًا مُستحيلة(4) بالنّسبة للدّولة حتّى في حالة الحصول على حكم قضائي.


هوامش:

(1) هنا يمكن لسائل أن يسأل ما العلاقة بين إفلاس الدّولة فيما يخصّ ديونها الخارجيّة (مُقوّمة بالعملة الصّعبة) و الدّيون الدّاخليّة (مُقوّمة بالدّينار)؟ الحقيقة ليست هنالك قاعدة عامّة و لكن الأرجح هو أن إعلان الدّولة عدم قدرتها على تسديد ديونها الخارجيّة ينجرّ عنه الإفلاس الدّاخلي. خاصّة إذا طُلب من المانحين الأجانب القبول بشطب جزء من أموالهم المُستحقّة سوف يطالبون أن يتحمّل الدّائنون المحليّون قسطًا من هذه الخسارة كإثبات لحسن النيّة و لتفادي أن يتحمّل الخسارة الدّائنون الأجانب لوحدهم.

(2) في الحقيقة توجد آليات غير رسميّة و قواعد إستخدام تلجأ إليها الجهات المانحة. هذه الآليات ليست متاحة للعموم و لا إحد يعرف تفاصيلها غير أعضاء نادي باريس.

(3) مثلا، سدّدت روسيا سنة 1997 لفرنسا القروض التي تحصّل عليها القيصر الرّوسي قبل 1917 و التي رفض الإتّحاد السّفياتي تسديدها بعد الثّورة.

(4) تقريبًا الحالة الوحيدة التي يمكن فيها للدّائنين حجز و بيع أصول ترجع ملكيتها للدّولة هي أن تكون هذه الأصول ذات صبغة تجاريّة و متواجدة في الخارج.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات