حول الدّين العامّ: أسباب تراكم الدّين العام بعد الثّورة (الجزء الرّابع و الأخير)

كلّ ما كتبته في الأجزاء السّابقة كان تهيئةً للمشهد و تمهيدًا لفهم وضعيّة المديونيّة في تونس بطريقة موضوعيّة و بسيطة. سأحاول من خلال هذه التّدوينة الإجابة بشكل موضوعي و إستنادًا للمعطيات عن السّؤال التّالي: لماذا تفاقمت المديونيّة إلى الحدّ الذي صارت فيه الدّولة مهدّدة بالإفلاس و غير قادرة تقريبًا على تعبئة الموارد الماليّة اللازمة لتغطية نفقات الحكومة و خلاص أقساط الدّين العمومي؟

إنّ التّشخيص الصّحيح لهذه المُسألة هو من الأهميّة بمكان لسببين إثنين على الأقلّ. أوّلاً، لإيجاد الحلول و الوصول إلى الوصفة العلاجيّة اللاّزمة للخُروج من نفق المَديونيّة. ثانيًا، الفهم الصّحيح للأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء الأزمة، يقطع الطّريق نهائيًّا على محاولات الإستثمار الشُّعبوي في الأزمة التونسيّة و مُحاولة إستغلالها سياسيًّا.

يُمكن تقسيم العوامل الموضوعّيّة التي ساهمت في تردّي الوضعيّة الإقتصاديّة و الماليّة في تونس إلى عوامل داخليّة و أخرى خارجيّة.

1. العوامل الدّاخليّة

العوامل الدّاخليّة التي أثّرت في الوضع الإقتصادي و المالي للدولة عديدة و مُتعدّدة. من أبرزها:

أ . تفاقم العجز التّجاري:

شكّلت صدمة الثّورة عاملاً حاسمًا في التّغير الهيكلي الذي طرأ على الإقتصاد ككلّ و ممّا يدلّ على ذلك هو إنكماش الإقتصاد بنسبة (1.9- %) خلال سنة 2011. عادة، عندما يكون تأثير الأزمة على الإقتصاد ظرفيّا، فإنّ النّمو يعود تدريجيًّا إلى المسار الذي كان عليه قبل الصّدمة. بِلُغة الإقتصاد نقول إن النّموّ يعود أو يتقارب (converge) مع النّموّ المُحتمل (croissance potentielle). لكن الملاحظ أنّ النّمو إتّبع مسارًا مُختلفًا ممّا يعني أن صدمة الثّورة تسببت في تدمير نهائي (destruction irréversible) لنسبة من القُدرات الإنتاجيّة للبلاد.

< الرّسم الخاصّ بالنّمو و النّمو المُحتمل هنا >


…

الوضعيّة النّاتجة عن الثّورة أثّرت أيضًا بشكل كبير بالأخصّ في الصّادرات و لكن تأثيرها على الواردات كان محدودًا. التّأثّر الكبير الذي شهدته الصّادرات لم يكن مردّه تراجع الطّلب على المنتوج التّونسي بقدر ماهو نتيجة نقص العرض و تأثر مسالك التّوزيع (الفسفاط) بسبب الإضطرابات (إنقطاع الإنتاج، مظاهرات، إضرابات، عمليات إرهابيّة، …).

النتيجة الطبيعيّة لذلك هو تفاقم عجز الميزان التّجاري بنسق مُتسارع من سنة إلى أخرى منذ سنة 2011. يظهر ذلك جليًّا في تحوّل هذا العجز من مُعدّل (4.9 -) مليار دينار بين سنتي 2000 و 2010 إلى معدّل (13.7-) مليار دينار بين سنة 2011 إلى سنة 2020 مع ذُروة وصلت إلى حدود (19.4-) مليار دينار سنة 2019.

< الرّسم الخاصّ بالصّادرات و الواردات هنا >


…

في الحقيقة، هناك تساوي تام بين الفارق بين الصّادرات و الواردات و الفارق بين الإستثمار و الإدّخار. يعني أنّ هذا الفارق يُحيلنا أيضًا على ضُعف الإدّخار الوطني الكبير نسبةً إلى الإستثمار (الإدّخار لا يكفي لتمويل الإستثمار). إذن، عجز الميزان التجاري، الذي هو يساوي أيضًا الفارق بين الإستثمار و بين الإدّخار، يجب على الحكومة أن تموّلهُ عبر الإقتراض الخارجي و الذي يعني إرتفاعًا في نسبة المديونيّة.

ب . إغراق الوظيفة العموميّة بالإنتدابات العشوائيّة

هناك قانون في الإقتصاد يُسمّى "قانون الإنتاجية المتناقصة" (loi des rendements décroissants). هذا القانون يقول إنّ الإنتاجيّة الحدّيّة (productivité marginale) لعوامل الإنتاج (رأس المال و العمل) تتناقص مع إضافة كل وحدة إنتاج جديدة.

< الرّسم الخاصّ بتطوّر كتلة الأجور هنا >


…

إذا أخذنا بعين الإعتبار أن الإدارة قبل الثّورة كانت بطبيعتها تغّص بالموظّفين و أنّ الكثير منهم غير ضروريّين أصلاً أو ذوي إنتاجيّة ضعيفة جِدّا، فإنّ زيادة أعداد الإنتدابات بشكل غير مسبوق كان أوّل قرار شُعبوي تتخذه الحكومات المُتعاقبة بعد الثّورة. الثّمن كان عجزًا كبيرًا في ميزانيّة الدّولة و التي أصبحت مُطالَبة كل سنة بتأمين هذا العجز عبر الإقتراض الدّاخلي.

< الرّسم الخاصّ بتطوّر عجز ميزانية الدّولة هنا >


…

الفارق في كتلة الأجور بين سنتي 2010 و 2020 يساوي تقريبًا 12.4 مليار دينار. هذا يعني أن حجم الأجور قد تطوّر خلال هذه الفترة بمتوسط معدل نموّ سنوي يساوي تقريبًا 11%. إعتقادي هو أنّ الإنتاجيّة، و التي هي ضعيفة أصلاً، لم تتحسّن كثيرًا لكي لا أقول إنّها لم تتغيّر أو حتّى ضعُفت. إذن، من زاوية إقتصاديّة بحتة، لا يمكن، بأي حال من الأحوال، تُبرير هذا الإرتفاع المُشِطّ في عدد الإنتدابات وبالتّالي في حجم الأجور.

بطبيعة الحال هناك عدّة عوامل أخرى أثّرت بنِسب متفاوتة على الإقتصاد كتعكّر مناخ الإستثمار و إرتفاع المُطالب الإجتماعيّة (أضرابات، إعتصامات، ..) و تأثّر السّياحة جرّاء إنعدام الأمن و عدم الإستقرار السّياسي (حكومات لا تدوم الشيء الذي أثّر على أجندة الإصلاحات و عطّل البناء و الإنجاز، …). كلّ هذه العوامل عطّلت النّمو الإقتصادي و الشيء الذي تسبّب في زيادة المديونيّة.

1. العوامل الخارجيّة:

في الحقيقة، العوامل الخارجيّة كثيرة و مُتعدّدة و في إعتقادي أهمّها هي أزمة الدّيون الحكوميّة في أوروبّا و تأثيرها على النّموّ الإقتصادي في تونس. ذلك لأنّ هذا الأخير مُرتبط إرتباط وثيق بإقتصاد المجال الأوروبّي بشكل عام و بإقتصاد فرنسا على وجه الخُصوص. هذا الإرتباط يجعل النّمو في تونس يتأثّر بشكل كبير و مباشر بأي تغيّر في نسق النّمو في أوروبّا.

نسق النّمو في المجال الأوروبّي شهد تراجُعًا كبيرًا منذ أزمة القروض العقاريّة المُنخفضة الجودة (subprime credit crisis). مع حلول أواخر سنة 2009 كانت أوروبّا، و التي لم تتعافى بعد من آثار الأزمة السّابقة، على موعد مع أزمة جديدة تتمثّل في إمكانيّة إفلاس حكومات عديدة على غرار اليونان و إسبانيا و إيطاليا.

بطبيعة الحال، الإنكماش الحادّ الذي شهده المجال الأوروبّي إنعكس بشكل كبير على الإقتصاد التّونسي من خلال تناقص الطّلب على الصّادرات و إنخفاض الإستثمارات الخارجيّة المُباشرة. إستمرّت هذه الأزمة لما بعد الثّورة و تحوّلت إلى خطر إنكماش (déflation) حاد ممّا دفع البنك المركزي الأوروبّي إلى إعتماد سياسة تيسير كمّي (quantitative easing) واسعة النّطاق لتفادي هذه المخاطر. كلّ هذه العوامل أثّرت بشكل كبير على آفاق النّمو في تونس ممّا صعّب كثيرًا إنتعاش الإقتصاد بعد الثّورة.

أين أخطأت الحكومات منذ 2011؟

هل يعني كلّ ما قلته سابقًا أنّ الحُكومات المُتعاقبة لم تخطئ ؟ الجواب هو قطعًا لا.

في تقديري أن الخطأ الجسيم الذي إرتكبته الحكومات المتعاقبة هو بالأساس خطأ في التّشخيص و في غياب الرؤية الإستشرافيّة للمخاطر الإقتصاديّة المُحدقة بالبلاد. خلال العشريّة التي تلت الثّورة طغى المُعطى السّياسي على المُعطى الإقتصادي في تجاهل تام لحقيقة أنّ الزّمن الإقتصادي لا يعبأ و لا ينتظر الزّمن السّياسي.

الإستقطاب السّياسي الحادّ أفرز حكومات ضعيفة سياسيًّا لم تَتمتّع بالقوّة الكافية للبتّ في المسائل الإقتصاديّة الحسّاسة و التي لم "تعمّر" طويلاً (على ما أعتقد تعاقبت عل تونس تسع حكومات في عشر سنوات!) لتنفيذ سياسات إقتصاديّة تقطع مع الحُلول التّرقيعيّة و مع سياسة الهروب إلى الأمام.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
عادل شعباني
19/11/2021 04:57
برافو تشخبص رائع