في كشف براقع التنّين : فتحي المسكيني متمرّدًا ؟

يُقال إن الأفعى تُغيّر جلدها مرات عدّة في السّنة (بحسب السن والحرارة والتغذية …الخ). ذاك ما يبدو للعين المجرّدة، ولكن العارف المدقق يعلم إن هذا الحيوان يُبدّل فقط جلده الظاهر، في حين يظل جلده الباطن على حاله. والتنّين – في إحدى تمثّلاته الشعبية، وحتى العالمة – أرقى أنواع الزواحف ضخامة وقوة وفتكا، وهو كائن أسطوري يهيمن على الثقافات الشعبية في مختلف الأزمنة. فكيف (ولماذا) استدعى الفيلسوف هذه الصورة لعنوان كتابه الأخير "براقع التنّين" (2023)؟ وهل كشف عن بعض الغموض عندما أردفه بعنوان فرعي: "أو كيف تصبح حاكمًا هوويا؟"؟ هل نحن في ساحة التفكيك (التفلسف) كما يوحي به العنوان الأصلي، أم في ساحة الدليل العملي (البراكسس) كما يقترح العنوان الفرعي المُغمَّس في التدبير السياسي؟

لعل فتحي المسكيني وناشره (مؤسسة هنداوي اللندنية) كانا على وعي بحجم الغموض وخطورة السباحة في مثل موضوعات الكتاب، فقررا تقديمه للقارئ مجانا على الشبكة العنكبوتية، ليُقيما علينا الحُجّة، فلا يتفصَّيَنَّ أحدٌ من مسؤولية عدم الاطّلاع عليه، والوقوف على ما جاء فيه.

جاء الكتاب في 140 صفحة، وزّعها مؤلفها إلى توطئة وستة محطّات. وكان عنوان التوطئة هو الذي اختاره المسكيني عنوانا فرعيا للكتاب، مع إضافة عبارة "أو" الغامضة، والتي لا ينكشف معناها قبل قراءة الكتاب، فصاحبنا لا يقصد المقابلة، بل التوكيد والتفسير.

الدولة – الغول !

التنّين عند الكاتب هو "ظهور الدولة" (الحديثة)، وهذه لا معنى لها إذا لم "تشتقّ من الحرب ماهيتها"، أي من القتل. وبالتالي فإن "أول ما يطلبه تنّين بصحة جيدة هو الموت من أجله باسم جماعة متخيّلة" (ص 7). ولم يكن الناس في تدبيرهم لشؤونهم يعرفون هذه "الدولة" قبل معاهدة وستفاليا (1648 م). والتنّين الذي خلقته هذه المعاهدة – بحسب المؤلف – هو "آلة ضخمة لتصنيع الأجسام النائمة بالطاعة".

منذ البدء يرسم المسكيني حدود موضوعته، ويحدّ معالم مفهوماته الإجرائية والفلسفية كما يفعل المناطقة، بل ويذكّر بالساحة التي يتحرك فيها، مستهلا كتابه بالتوجه رأسا إلى فئة محددة من المتلقين: (من أراد أن يؤسس "دولة" … هو يحتاج إلى …). ولكن قبل تقديم "وصفةٍ" تأملية لدعوة ملحّة إلى أن "هجرة جديدة إلى الإنسانية قد صارت أوكد من أي وقت مضى" (آخر جملة في كتابه ص 140)، يعمد المسكيني إلى إعادة قراءة مكثّفة لنشأة الدولة الحديثة في أحضان معاهدة وستفاليا، وبالتالي ارتباطها الوثيق بمفهوم "الأزمة"، مفصّلا في ارتقاء هذا المفهوم إلى رتبة "المفهوم الفلسفي" ليصبح مع منتصف القرن العشرين "براديغم لجملة النقاشات حول العالم المعاصر"، ويدفع إدغار موران عام 1976 إلى القوْل بضرورة إرساء نوع من علم الأزمات (ص 11).

ثم تناول الكاتب تفاصيل ولادة التنين وعسكرة الحقيقة (الفصل الثالث) محاولا تقديم فهم لأطروحة أن الحرب تصنع الدولة (كما ذهب إليه هوبز) وأن الدولة تصنع الحرب، تماما كما في الحالة الأوروبية مع الدولة – الأمة، وكيف فتح "نظام العالم الحديث" (أي الأوربي) على دول "السيادة المطلقة" (ص 39) وولادة التنين الذي يمثله رأسًا الحكم المطلق (ص 48)، المؤدي إلى ظهور الدولة – الأمة محتكرة سلطة الإكراه، والمتسببة في الحرب باسم جماعة انتماء متخيَّلَة يموت الناس من أجلها (63).

يحاول المؤلف الإجابة في هذا الفصل عن سؤال: "ما الذي يجمع بين الدولة (وهي ظاهرة حديثة بامتياز) وبين التنين الذي هو استعارة دينية ترمز غالبا إلى الحرب في معناها الأقصى أي الصراع بين الآلهة والوحوش" (49). لا شك أن أهم سِمتَيْن يتّصف بهما التنين هما الكينونة الأسطورية وقوّة الفتك، لذلك عمد الكاتب إلى وصف "الدولة الحديثة" به، مستدعيا ذلك الاستعمال من تشبيه توماس هوبز لها بالتنين في كتابه "اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة" (واللفياثان في كتب العهد القديم هو التنين)، الصادر عام 1651، والذي نشرت نسخته اللاتينية المُراجعة في عام 1668، واستحضار التسمية لدى عدد من الفلاسفة اللاحقين (كتوماس إرتمان وكتابه مولد التنين 1997).

يمضي المؤلف في تفكيك مظاهر هيمنة ذلك الغول على مفاصل حركة الأفراد والجماعات في أوربا، متحولا إلى "صنم مقدس يُعبد" وإلى سرديات طاعة تقوم على استهلاك أوهام، ثم ليصل إلى مرحلة "التهرم" وبداية ظهور "حالة فراغ" الدول ما بعد – السيادية، وولادة "عصر الشَبَحِيّة" على قول دريدا، من خلال بروز "شبح العصيان" المنبثق من طاقة تخريبية غير مسبوقة (الفصل الرابع). يعتمد المؤلف تلك "الأشباح" أداة لفهم ما يجري في أوربا ولكن أيضا في العالم، بعد 2001، ولكن خاصة بعد 2011 فيما سمي بثورات الربيع العربي. مرحلة اكتشف المحكومون فيها فجأة أنهم لم يعودوا شعوبًا، بل صاروا دون علمهم مجرد مجموعات سكانية أو فئات اجتماعية أو أقليات أخلاقية … بلا خطة للمصير (ص 82). يعتقد المسكيني إن الفترة التالية للحربين العالميتين وإلى حدود عام 2001 مثّلتْ – في أوربا – "ورشة أخلاقية وحقوقية لاستعادة الحياة العادية وتأسيسها من الداخل باسم فرد ما بعد قومي كما هو ما بعد علماني، وما بعد مسيحي كما هو ما بعد حديث".

المواطن الشبح

وفي الفصل الخامس (الديموقراطية ليست حدثا، أو من حرية الرأي إلى "حرية الحقيقة") يناقش الكاتب آراء الفيلسوف آلان باديو في موضوعة الديموقراطية وانفصالها / اتّصالها بالدولة لجهة العلاقة بالحقيقة، والتأكيد على ضرورة إعادة التفكير في معنى السياسة، معارضا كانط وورثته (حنّا أرندت) في اعتبار الرأي العام هو دائرة الفعل الوحيدة، معتبرا أن ربط السياسة بالرأي العام هو عزلها عن تدبير الحقيقة (112). ويذهب المسكيني مع باديو في أن الفيلسوف لا يمكنه ادّعاء القطع مع الرأي السائد دون القطع مع الإدّعاء الديموقراطي "لأن خطاب الحقيقة لا يمكن أن يتساوق مع خطاب الرأي العام"، ما يجعل الديموقراطية منظوية في "خانة الرأي التسلطي الذي يمنع الناس من حقهم في ألاّ يكونوا ديموقراطيين" (114).

وفي مناقشته للـــــ(إدّعاء الديموقراطي)، يقف الكاتب طويلا لتفكيك معوقات الديموقراطية، ولا يعتبر أن الدولة هي عدوها الوحيد، بل يذهب إلى أن "الهوية والعرق والدين والجنس كلها معاول جماعوية تهدم مبدأ المساواة وتجعل المستحيل الديموقراطي أكثر استحالة (115). لذلك فهو يسعى إلى "إعادة السياسة إلى نفسها" بوصفها "نوعا من تدبير الحقيقة"، ويتساءل عن كيفية انخراطنا "في المؤتلف الإنساني من حيث جملة القيم المشتركة بين البشر بما هم بشر بمُجرّدهم"، ويصل إلى أن "قيمة الكونية هي المعيار الوحيد لصلاحية أي ادّعاء هووي حول أنفسنا" (123)، وليختم تحليله بأن "الكرامة الإنسانية كل لا يتجزأ. وليس مفهوم الفرد غير التجسيد الاجتماعي لها" (135). ولعل عنوان خاتمة كتابه يختصر جِماع خيطه الناظم: في نزع "الطابع الريفي" عن كونية الغرب، نحو هجرة جديدة نحو الإنسانية (138).

قد تختلف مع المسكيني في نتائج تأويلاته، واختيار زوايا النظر التي تناول من خلالها قضايا الدولة والسياسة والديموقراطية، والأدوات النظرية التي اعتمدها في تحليله، وتطبيقات بعض النتائج التي توصل إليها على فضاءاتنا الخاصة (الثورة؛ الدكتاتورية؛ الشعبوية؛ المواطنة …الخ)، وقد يرى أحدهم (وقد سمعت هذا الرأي من بعض المتسرّعين) أن الرجل لم يفعل سوى ترصيفٍ مكثف لآراء الفلاسفة الغربيين حول الموضوع، إلا أنك لن تستطيع تجريد الباحث من خصيصتين على الأقل:

الأولى جرأته على الدولة والحداثة معًا، في ربط سببي بينهما، ومن داخل سياج الحداثة نفسها، ولم يقتصر الأمر على هذا الكتاب؛

والثانية تحلله من "ضغط" الانتماء الفئوي، فهو بحسب علمنا من بين القلائل – جدا – الذين كسروا أغلال "الرأي السائد" داخل النخب العربية الحديثة (والجامعية منها بالأساس) وشككوا في ضرورة هذه الدولة القائمة، ومدى صلاحيتها في تدبير شأن "حقيقتنا".

الكتاب جدير بالتأمل والبناء على مخرجاته، لمن رام فهم ما يجري حولنا والتعالي عن التفاصيل التي يُرادُ إغراقنا في ثناياها تعتيمًا للرؤية ودفعًا إلى الإحباط.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات