«حرب اللغات» : قمة الفرنكوفونية في تونس والسرديات "المُخاتلة"

الصعود والانحسار

صدر كتاب «حرب اللغات والسياسات اللغوية» لأستاذ اللسانيات الاجتماعية الفرنسي لويس جان كالفي عام 2005 (صدرت ترجمته العربية في 2008)، وفيه حاول فهم رهانات السياسات اللسانية وصراعات التنوّع اللساني على أرض التنافسات، انطلاقا من دراسات ميدانية لحالات أفريقية ولاتينو-أمريكية وأوروبية وآسيوية. ومن بين تلك اللغات يخصّص الكاتب الفصل السابع عشر للحديث عن «حرب الخنادق: النموذج الفرنسي»، ويتابع توسّع اللسان الفرنسي الديموغرافي والوظيفي عبر القرون، ويقرنه «بمقدار تراجع اللاتينية».

ثم تمدّدت تلك اللغة في البلدان المجاورة لفرنسا (في أنحاء أوروبا)، ليعلن فولتير من بريطانيا في كتابه «عصر لويس الرابع عشر» (1751) «إن لغتنا أصبحت لغة أوروبا»؛ ولتختار أكاديمية برلين في 6 جوان 1782 موضوعًا لمبارياتها السنوية: «ما الذي جعل اللغة الفرنسية لغة عالمية لأوروبا؟». تَرافَقَ انتشار الفرنسية في تلك الحقبة ديموغرافيًا مع انتشارها وظيفيا، وأصبحت تُسَوَّقُ باعتبار قدرتها على الجاذبية الثقافية وأداةً لخلق الثروة في آن. ولكن ناقوس الخطر تراجعٍ بدأ يلوح في الأفق للغة الفرنسية ظهر منذ عام 1883 مع إنشاء مؤسسة «التحالف الفرنسي لنشر اللغة الفرنسية في المستعمرات وفي البلدان الأجنبية»…

ظهرت الحاجة إلى تدخّل المؤسّسة... الدولة، لرفد مكانة اللغة، وهو مؤشر على ظهور وعي بوجود بوادر أزمة، باعتبار أنّ «اللغة التي تتوسع لا تحتاج إلى من يدافع عنها»؛ وقد عبّر عن ذلك «الانزعاج» أستاذ الأدب الفرنسي في الكوليج دو فرانس: جان جاك أومبير في أحد كتبه عام 1855 قائلا: «هي ذي علامة محزنة من علامات التأثير الأجنبي على وطن يقاوم، وغزوٌ بالنّحو يعقُبُ غزوًا بالسلاح» (متحدثا عن انتشار الإنجليزية على حساب الفرنسية في كندا). بدأت اللغة الفرنسية، لغة الكثلكة الحارسة للإيمان، وشعارها المشهور «كونوا مسيحيين صالحين وناطقين بالفرنسية»، تشهد تراجعا على الأرض، في عدد الناطقين بها وفي وظائفها في نفس الوقت. ما دفع إلى ظهور عدد هائل من التشريعات في فرنسا بين 1973 و 1980 «لحماية» اللغة داخل فضائها الأول، حمايةٌ قسرية بالقانون الزاجر !!! ما دفع بيار بيرسيس (الذي يصف نفسه بأنه رئيس الحقوق الاشتراكية للإنسان) إلى نشر مقال في جريدةLe Monde بتاريخ 10 ديسمبر 1985 تحت عنوان «Les Amers-Looks» يوازي فيه بين من يرفضون الدفاع عن اللغة الفرنسية وبين عملاء النازية السابقين في فرنسا…

وما فتئ ذلك التململ من تمدّد اللغة الإنجليزية (داخل الحلَبَة) يتزايد، ليُسارع 100 من المثقفين والفنانين والعلماء الفرنكفونيين من 25 دولة إلى إمضاء بيان مشترك يطلقون فيه صيحة فزع في وجه الرئيس إيمانويل ماكرون في جوان 2019 يقولون فيه: «إن اللغة الفرنسية في وضع سيئ، وهي تختنق بفعل اللغة الإنجلو-أمريكية، وبدأ استخدامها يشهد تراجعا أمام هذه الأخير التي أزاحتها عن مكانها. وأمام هذا الغزو تُحيلنا ذاكرتنا إلى ماض مؤلم من الخضوع وتفسّخ الذات» [الذكرى الـ79 لنداء الجنرال الفرنسي شارل ديجول في 18 جوان 1940، للوقوف بوجه النازية]، ويقررون أن «من حق منظمة الفرنكفونية أن تنتظر من البلد الأصلي لهذه اللغة المشتركة إشارة قوية لمقاومة تعي أخيرا حجم الرهانات. والمطلوب من زعيم المنظمة العالمية للفرنكفونية مثلكم أن يجعل السياسة الخارجية لفرنسا متلائمة مع التطلعات الإنسانية للمنظمة (...) وبالتالي فإننا ندين اختيار شخصية رواندية من الناشطين في حكم سياسي كريه، على رأس منظمة الفرنكفونية».

تلك هي السياقات العامة المتوتّرة (على الأرض) التي تأسست وتطورت فيها منظمة الفرنكوفونية كفكرة سياسية – ثقافية تبناها الشاعر السنغالي ليوبولد سنغور عام 1962، قبل أن تأخذ شكلها المؤسسي في مارس 1970 تحت مُسمى «وكالة التعاون الثقافي والفني» ثم لاحقا (عام 1998 ببوخارست) «المنظمة العالمية للفرنكوفونية»، والتي تهدف إلى محاولة التصدي للانحسار المستمر لتأثير اللغة الفرنسية السياسي والثقافي في العالم، والتي كان آخرها التحاق الكاميرون بمنظمة الكومنويلث (1998) قبل أن تنسج رواندا على منوالها (2010)، وتطلب الغابون والتوغو رسميا الانضمام إلى عضويتها.

قمّة جربة، والزمن القاتل

بمناسبة الذكرى الخمسون لانبعاث المنظمة العالمية للفرنكفونية، تقرر إقامة القمة في تونس سنة 2020، واتُخِذ القرار في القمة رقم 17 المنعقدة سنة 2018 بييريفان (أرمينيا)، ولكن ظروف جائحة كورونا دفعت إلى تأجيلها مرتين، قبل أن يتقرر انعقادها في جزيرة جربة جنوب البلاد التونسية في شهر نوفمبر 2021.

وقد كثر الجدل في الأشهر الأخيرة حول مدى «معقولية» عقد القمة في الظروف السياسية والاقتصادية والصحية التي تعرفها بلادنا اليوم، وحول حيثيات وطبيعة الضغوط التي تمارسها المنظمة على الدولة التونسية لعدم تأجيلها مرة أخرى... وسدّ الطريق أمام إمكانية الاعتذار عن إقامتها أصلا، خاصة بعد أن اعتبر المراقبون في شهر جوان الماضي أن وزارة الخارجية التونسية تحتاج إلى مبلغ 7.4 مليون يورو (حوالي 24 مليون دينار) لبدء الأشغال الفعلية لاستقبال القمة، وهو ما يجعل المهمة مستحيلة في وضع أصبحت الدولة فيه شبه عاجزة عن توفير رواتب الموظفين للأشهر القادمة، والحالة صحية حرجة جرّاء الجائحة، إضافة إلى الأزمة السياسية والدستورية التي تعرفها البلاد بعد 25 جويلية (تجميد البرلمان؛ إعفاء الحكومة؛ تعطيل العمل بالدستور؛ تجميع السلطات بيد رئيس الدولة؛ استفحال العداء بين ممثلي الطبقة السياسية؛ اتهامات متبادلة بالاستقواء بالأجنبي لحسم تنافسات / صراعات داخلية ...الخ). تقول الأوساط الإعلامية إن رئيس الحكومة السابق المشيشي اقترح على الرئيس قيس سعيد في شهر جوان الماضي تأجيل عقد القمة، إلا أن هذا الأخير رفض قطعيا ذلك المقترح.

وقد يستغل خصومه إصراره على عقدها كسبب جديد لمعارضته والدعوة إلى تنحيته. ولكن المتفحص في سياقات هذا الملف يلاحظ أن طلب استضافة القمة في تونس سبق بمدة طويلة ظهور سعيّد في المشهد السياسي الحالي (تقديم الطلب في 2016، والموافقة عليه في 2018)، بل إن البرلمان التونسي تكفّل بمناقشة الاتفاق الذي أمضاه وزير الخارجية التونسي (خميس الجهيناوي) مع منظمة الفرنكفونية بخصوص بعث مكتب إقليمي لها بتونس يغطّي المغرب العربي منذ 15 أفريل 2019، وتمت المصادقة عليه باعتباره قانونا أساسيا في جلسة عامّة (بعد مروره بمختلف المراحل) يوم 30 جوان 2020، قبل أن يصادق عليه الرئيس يوم 14 جويلية.

ثلاثة نقاط تشد الانتباه في مُجمل المناقشات البرلمانية حول ذلك القانون:


- الأول غياب كلي لتناول الكُلفة المادية المنوطة بكاهل الميزانية التونسية بخصوص قمة الفرنكفونية، ذات العلاقة المباشرة بترسيخ المكتب الإقليمي: كيف سيتم تغطيتها في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعرفها البلاد، وتداول الحديث عن نادي باريس وعن إمكانية إفلاس الدولة ... الخ.


- الثاني التهرب الواضح لمختلف المتدخلين من الدخول في تفاصيل ما يُؤمَّلُ أن تجنيه الدولة التونسية من فوائد على المستوى المتوسط والبعيد، والاكتفاء بترديد جمل إشهارية محدودة و«بائسة» (لجهة المعنى) ذات الارتباط بالمساهمة «في تحسين صورة البلاد التونسية واشعاعها بالخارج وتيسير العمل مع المنظمة الدولية للفرنكوفونية» !!! بل شنّف بعض النوّاب أسماعنا بالفرصة التاريخية التي ستمثلها القمة ومكتبها الإقليمي لتونس بخصوص «تطوير الاقتصاد الرقمي»، على اعتبار أن فرنسا ومنظمة الفرنكفونية رائدة عالمية في ذلك (؟؟؟ يا أمّة ضحكت من جهلها الأمم).


- أما ثالث الملاحظات فغياب التفكير عند هؤلاء في المطالبة / أو في عرض جردة حساب لما أثمره التعاون الوثيق مع المنظمة طيلة خمسين سنة: في التعليم، والصحة، والبيئة، والفلاحة ... ووو ... ومقارنتها – على سبيل المثال لا الحصر – بعشرية واحدة (2010 – 2020) قررت فيها رواندا الانسلاخ من هيمنة المنظمة والانخراط في الكومنولث.

وما يدفعك إلى التوقف مُسارعة الطبقة السياسية الممثَّلَة في البرلمان، وبمختلف تلاوينها، إلى المصادقة على تلك الاتفاقية بــ124 من ضمن 143 نائبا شارك في التصويت، أي بنسبة تقارب 87 %. لم يعارض الاتفاقية سوى 15 نائبا، 10 منهم ينتمون إلى ائتلاف الكرامة، و5 من غير المنتمين إلى كُتل.

المشكلة أن تلك الاتفاقية، ببنودها الـــ15، تتمتع بضمانات البعثات الدبلوماسية، وتتجاوزها أحيانا. فالمادة الرابعة على سبيل المثال تنص على الحصانة التنفيذية للمكتب ولممتلكاته وموجوداته، «أيا كان مكانها أو حائزها بالحصانة من إجراءات التنفيذ على التراب التونسي»، وينطبق ذلك أيضا – في البند السابق – على الحصانة القضائية. كما يجوز للمكتب أن يستورد أو يصدر جميع المواد، حتى تلك الممنوع استيرادها أو تصديرها، وهو معفى من كل التقييدات والرسوم والتدابير المقيدة بشأنها (مادة 10). كما لا يمكن «للحكومة التونسية والسلطات الوطنية المختصة وضع قيود بخصوص الدخول والإقامة بالتراب التونسي على الأشخاص المعنيين بأداء مهام رسمية بمقر المكتب الإقليمي أو الذين تمت دعوتهم لزيارته من قبل المنظمة، وكذلك عند مغادرتهم للتراب التونسي» (مادة 13) ... إلخ من المواد التي تؤشر على حدود «سلطات» ذلك المكتب لاحقا.

لسنا هنا بوارد تقييم قيمة تلك الاتفاقيات الدولية أو فوائد تمكين المنظمات الدولية من فتح مقرات لها في بلادنا، نحن هنا بصدد التعريض بغياب المناقشات العمومية حول هذه القضايا الكبرى ذات العلاقة بالمستقبل وبالسيادة، وخاصة في وضع ثوري، وبالأخص في أوضاع متأزمة كما تعرفها بلادنا.

ما فائدة تحميل قيس سعيّد وفريقه تداعيات هذا الملف، ونحن نرى غالبية الطبقة السياسية، بتناقضاتها الظاهرة والخفية، منخرطة في مباركة مثل هذه التوجهات دون حسيب أو رقيب ... ما الفرق بين أن يُمضي الجهيناوي على الاتفاقية أو أن يعتبر نور الدين الريّ (أول وزير خارجية في رئاسة سعيّد) احتضان تونس لهذا المكتب «أكثر من أساسي، هو انتصار دبلوماسي» ؟؟؟ وما فائدة الندب الآن عن تدني مستوى التعليم والتشنيع على واقع تعليم اللغات عموما واللغة الوطنية تخصيصا، وأنتم لم تتكفلوا، أو لم تنتبهوا – عند تبنيكم لذلك القانون ودفاعكم عنه – حتى بمناقشة ما جاء في توطئة ميثاق الفرنكفونية من أن هذه الأخيرة تتصف ببُعد سياسي رئيس، وأن مديرها العام مُكلَّفٌ بقيادة الدور السياسي للمنظمة والتكلم باسمها في المحافل الدولية (الفصل 7)، ثم تخرجون علينا بالتنويه بأن قمّة جربة سيكون شعارها «الرقمنة وتكنولوجيات الاتصال» وتناسيتُم أنكم كنتم، باختلاف حكوماتكم وتوجهاتكم وإصلاحاتكم، تُسوّقون لنا تلك "الخَلْطَة" منذ عقود عديدة ؟؟.

تخلت نخبنا (الحاكمة والمعارضة) بجهل أو بوعي أو بتبعية عن الدفاع عن لغتها الوطنية، ولم تعد تلتفت إلى شعار «لا نهضة لأمة من خارج لغتها»، بل إنها لم ترتق حتى للنقطة الأولى من بيان المائة للرئيس ماكرون، الذين طالبوه «بالتخلي عن استعمال الإنجليزية في الخارج … وفي داخل فرنسا نفسها، لأن ذلك يدفع زائرينا إلى هجر لغتنا، لغة تركها أصحابها الأصليون».

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات