ثورة 17 ديسمبر - 14 جانفي : الحدث والمعنى

ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي من أجل الحرية والكرامة هي ثورة عظيمة ذات حركة متناقضة لا تخلو من بعد تراجيدي.

لنبسط ذلك في النقاط المقتضبة التالية لمزيد فهم توليد المعنى الذي تضمنه الحَدثَان الكبيران إن بالتصريح أو بالاضمار : –

أجل! لم يكن البتة لكل من الحدثيْن أن يكون له معنى من دون الآخر! – ما كان لــ 14 جانفي أن يتحقق من دون 17 ديسمبر! – ولكن أيضا، بل وأهم من ذلك، ما كان لــ 17 ديسمبر أن يكون له معنى تاريخيٌّ ووطنيٌّ، وهو معنى تغيير الوجود الجماعي بداية بشكله السياسي المباشر، من دون 14 جانفي،

بل كان لــ 17 ديسمبر أن يمكث «حدثا» مؤلما صادف حياتنا ثم ولّى ومضى إلى أن يمحى من الذاكرة! وما كان لمحمد البوعزيزي أن يصبح «ضحية» و«شهيدا» !

فكم من شخص انتحر بسبب الجوع أو الظلم والقهر قبل البوعزيزي وحتى بعده ولم يأخذ انتحاره المعنى الذي اكتسبته حادثة البوعزيزي التي تحولت إلى «يوم» مشهود من «أيامنا» !

ما الذي حوّل حدثا محليا مفردا إلى واقعة متعددة الأبعاد وذات تعبير كوني؟ ما الذي نقل حدثا بلا معنى يجد كلّ يوم، هنا وهناك في العالم، إلى رمز وسرّبه إلى طوايا جسم اجتماعي أكبر فسرى في رقعة جغرافية إنسانية أوسع وتردد صداه القوي والمزلزل في اليمن؟

لقد كان للناس أن يضحكوا وأن يسخروا بكل فضاضة كلبية من حدث يائس، ولكن ما بدأ 17 ديسمبر بحبكه غير الواعي وغير المريد توّجه 14 جانفي الواعي والمريد معلنا عن انتصار الأوّل .

ولذا فإن 14 جانفي يوم عظيم أيضا، شئنا أم أبينا: فوحده الانتصار على النظام الاستبدادي، وحده إسقاط الديكتاتور سياسيا أكسب الأحداث الاجتماعية قوة، ومعنى، وعبرة، ومجدا.

وإن «بن علي هرب… بن علي هرب» و «هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية» وغير ذلك من المجازات والرموز ، هو الذي قرّب معنى التحرر والانعتاق (أو إمكانية «الخلاص»، بلغة أخرى)، قرّبه من الشعوب العربية وألهما به، وحرك إرادة قاعدية واسعة كانت ساكنة لعدة قرون بالمعنى الخاص الذي أعطته الثورة التونسية المجيدة للحدث.

لولا 14 جانفي، لجعل نظام بن علي من حادثة البوعزيزي مجرد انتحار (أي فعلا لا أخلاقيا وجحودا وفقا لتأويل «ديني-سياسي» رسمي وسلبي للحادثة، «تأويل» ترعاه الدولة العميقة)، وجعله مجرد حادث مرور نتيجة غباء ويأس أو بحكم القضاء (وليس بحكم «القدر»)، ولما اكتسبت حادثة البوعزيزي معنى التضحية» «الفردية من أجل «الكل»، وهو المعنى الذي وخز الضمير الوطني والشعبي وخزا شديدا موجعا فتحركت السواكن وانتفض الضمير ووافقه القدر!

– كان 14 جانفي تأويلا اجتماعيا تاريخيا وسياسيا نيّرا ومنيرا ومنتجا لــ 17 ديسمبر… وتلك هي «البراكسيس» الضعيفة نسبيا والمحدودة وربما الضيقة الأفق في حدود بلادنا وإمكانات قواها الاجتماعية والسياسية. فحتى من بادر بتأطير الثورة (خصوصا بين 17 ديسمبر و14 جانفي)، كان يؤطرها على يسارها وعلى يمينها معا في وقت واحد!

– ولكن كان من الممكن أيضا لــ 14 جانفي أن يكون أكبر بكثير ممّا تحقق فيه وما حققه بعده، وكان من الممكن لِما ترتب عنه وما جرى بعده حتى هذا اليوم أن يكون مختلفا جدا ،مغايرا كثيرا لما حصل وأفضل منه بما لا يقاس . ولكن حصل ما حصل. والتاريخ الماضي ليس تمنيات، بل عبرة واستنهاض سردي:

إنه قدر (أو حتمية بلغة علمانية وليس قضاءً)، قدر يجب التكفل به كما تتكفل الشعوب العظيمة بقدرها خيرا وشرا. ولِنَقُل مثلما كان يرى الفيلسوف الدنماركي، كيركُغُور (كيركغارد): يجب التمكن من قدرنا واسترداده بالاستحواذ على كياننا بتمامه وكماله لصنع اختيارنا بأنفسنا….حريتنا متناقضة وتراجيدية وثمنها باهض أو لا تكون!

– ولذا فالمعنى الذي لــ 17 ديسمبر إنّما حصل له من 14 جانفي، مهما كان المعنى الحاصل «نصف معنى»، ودون المـأمول الممكن! يجب إذن استئنافه واستكماله وليس التراجع عنه… أي عمّا فيه من بصيص أمل! – التراجع، على الصعيد المعنوي، إلى عتبة 17 ديسمبر قد (أشدد على الأداة «قد») – قد يهيئ رمزيا إلى تخطّي العتبة إلى ما قبلها، أيْ إلى 16 ديسمبر، هذا بصرف النظر عن النوايا الطيبة لو أنّ النوايا تصنع وحدها السياسة، وتدبّر شؤون البشر العامة، وتحكم الدول.

– فأما عن النوايا الطيبة، فقد قالت قيصرة روسيا، كاترين الثانية، لأحد فلاسفة التنوير الفرنسي، قبل بضعة قرون: «سيدي الفيلسوف أنت تكتب نواياك على ورق صقيل فلا تعترضها عوارض ولا نتوءات،،،، أمّا أنا فإمبراطورة مسكينة أكتب على جلد البشر الصلب الوعر… فدعني سيدي من أفكارك حتى أشتغل…». وكانت الامبراطورة صديقة الفيلسوف … وهو ديدرو.

– ولذا إذا نزعنا 14 جانفي سلبنا من 17 ديسمبر دلالته السياسية المباشرة ومن معناه التاريخي المفتوح. وما عساها تكون الثورات – جميع الثورات- إنْ لم تكن أولا وقبل شيئ تحصيل المثال والعبرة والمعنى الذي به نؤوّل حياتَنا ونصنع تاريخَنا وحريتنا وكرامتنا وقليلا من سعادتنا المشتركة، أو التخفيض، على الأقل، من عذاب بشر مثلنا هم الأغلبية، وهم شركاؤنا في المواطنة؟

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات