سؤال يجب على كل واحد منا أن يطرحه: من أيّ طينة عُجِنّا؟

أيّ طينة نحن قد عَجَنَ التاريخُ عناصرَها المتنافرة فأنتجها؟ هذا سؤال جوهري كليّا يجب على كل فرد منا أن يطرحه على نفسه ولو مرة واحدة في حياته، ويجب على كل مجموعة وكل هيئة اجتماعية أو سياسية أو مدنية، أن تطرحه على نفسها. لقد تجنبنا وما زلنا نتجنب طرح سؤال كهذا خوفا من جواب فيه ما فيه من المآزق الباعثة على التشاؤم.

ولكن في هذه اللحظة بالذات، من يريد معرفة حقيقته وحقيقتنا الجمعية عليه أن يقبل ولو مؤقتا بالفكر الكَلْبيَّ أو بما يُعْرَف، منذ الإغريق، بـ«القُونِيَّة cynisme. »إنّ «ملتقى الحضارات» كما ينعت التونسيون بلدهم ليس في معظمه سوى تركيب أنتربولوجي، اجتماعي وثقافي، اقتصادي وسياسي (مخازني، دَوْلاتي) هجين، حاول التجار منذ عليسة وأمثالها تسوية تضاريسه ونتوءاته الحادة، وحاول رجال الاصلاح «الحداثيون» من جهتهم استجلاب العقاقير ومسحه بالمساحيق لإخفاء عيوبه البارزة، مع سدّ باب تبعية مّا لفتح باب تبعية أخرى.

لكن كل ذلك لم يغيّر في جوهر الأمر شيئا، إذْ إنّ هناك فرقا هائلا بين عفويّة التلقي — أو الاستقبال —وهي العفوية الصانعة للأمم المنيعة ولمؤسساتها الراسخة وبين «ميكانيكا المحاكاة» والتقليد العمياء التي تولد مسوخا (monstres)، كما نرى اليوم في تونس. وزد على ذلك أنها مسوخ سطحية من حيث وضعها الوجودي، وتبسيطية من حيث فكرها وممارستها السياسية، بل وإنها أيضا مسوخ طفولية من حيث مواقفها، طفولية مجردة من «براءة» الأطفال (مع الاعتذار لسيغموندفرويد عن استخدام كلمة «براءة» هنا). أمّا عبارة «تونس ملتقى الحضارات» فهي طنين خطابي به تعبّر النخب التونسية بالمقلوب (بالتورية والتستر في علم البلاغة) عن افتخارها بتعاقب الغزاة على أرض بلادها منذ عصور قديمة. وربما هي النخبة النادرة في العالم التي تتغنى بهذا المجد، لو كان هذا يعتبر مجدا. هذا في حدود القليل ممّا أعلم.

ولقد رأيت (من خلال قراءة التواريخ الكبرى والدّالة) أنه حيثما يوجد ضرب من الانسجام «العنصري» (ليس بالمعنى العرقي، بل الأنتروبولوجي!)، فإن الخصومة ¬— بل وحتى العداوة أيضا ¬— تشتد بين الخصوم لتؤول في غالب الأحيان إلى الاتفاق حول مبدإ الخصومة وحول طرق تدبيرها وتسييرها.

كذا هو تاريخ البرابرة والواندال والهانس والجرمان مثلا لا حصرا، فإنّ في بعض «صفاء» معدنهم ما يوحّدهم وهم في معمعان السجال والمبارزة : الخصومة لأجل الجلوس وجها لوجه، والحرب لأجل السلم والتصالح. وهذا ما يفسر أن الديمقراطية الأوروبية، حتى في تعبيراتها الشكلية والمؤسسية، ضاربة بجذورها في وجدان الناس، وفي تقاليدهم ما قبل الحديثة؛ والراجح أن أصل الديمقراطية (خارج أثينا) يعود إلى الشعوب البربرية التي كسَرت الطّوق الروماني، وعتقت الرق، ونشرت المسيحية؛ ثم إن تلك الشعوب البربرية نفسها كان لها خَلَفُها في عهد الثورات الأوروبية الحديثة(الطبقة الثالثة في الثورة الفرنسية مثلا)، خَلَف استعاد ما أطلق عليه أحد فلاسفة التنوير الفرنسي اسم «العقد الأصلي(contrat originel) » مشيرا بذلك إلى البرابرة أسلاف الأمم الأوروبية المعاصرة … والفيلسوف الذي أقصده هنا هو الأباتي دو مابلي، خصم فولتير العنيد ومنافس روسوحول كثير من الأفكار والنظريات، والذي دعا ماركس الإشتراكيين إلى قراءة مؤلفاته، ومنها بالخصوص كتابه في حقوق المواطن وفي واجباته.

أمّا «برابرتنا» نحن (ولا أقصد سكان شمال إفريقيا الأصليين، بل مستوطنيه العرب منذ القرن الحادي عشر ميلاديا) فانفرط «عقدهم الأصلي»وانحل صفاؤهم ليدخلوا في «العسكرة مع السلطان» كما يقول ابن خلدون، حاملين العصبية إلى قلب الدولة (بالمعنى العربي لكلمة «دولة»فهي ما تَدُولُ للغير أو تنتقل «هيبتُها» إليه بالغلبة وبشوكة العصبية)؛ والعصبية يمكن تصريفها اليوم في تونس على أنحاء شتى: النسب الأسري، والقبلي، والجهوي،والأولغارشي «الريعي- سياسي»،والقطعاني المافيوزي، وحتى الحزبي، والنقابي، الخ…وكل ذلك خلافا لمعنى الدولة اللاتيني حيث من معانيها «الوضع» و«النظام» القارّ (statut). الخطر على المواطنة قائم إذن هنا وليس في الديمقراطية، والخطر على الديمقراطية ليس من الفوضى، بل من ضعف الرابطة المواطنية وضعف الغيرة على الشأن العام.

ولذا فإنّ وضع الديمقراطية في تونس صار اليوم حرجا ودقيقا للغاية، ومستقبلها في مهب الريح، وله بعض الصلات الخفية بذلك التاريخ الذي خُيّل للمتفائلين مثلي أن ثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي جاءت لتقطع معه. أجل ! لقد كان ذلك ممكنا لأوّل مرة في تاريخنا. غير أن رياح الردة النخبوية والتشكيك الإعلامي ثم من بعدهما الخيبة الشعبية، كل ذلك جرى بما لم يكن يتصور الحراك الاجتماعي العارم في بداياته. .

فليس إذن مستبعدا، والحال هذه، أن نرتدّ في مستقبل منظور إلى أسفل السافلين بحكم نزعة فاشية تستميل إليها شرائح وفئات وسطى خابت آمالها بعد أن لعبت دورا يراوح بين الإيجاب والأمل والخوف والنفاق أثناء الحدث الثوري عند منقلب العقد الأول من هذا القرن.فإذا عرّفْنا الفاشية لا على أنها فعل موجب (مثل الديكتاتورية أو الاستبداد)، بل فعل سالب،أيْ ردة فعل «طبيعية» وآلية تتبع باللزوم كل مدّ ثوري خطير جاء منقوصَ الفاعلية ومبتورَ النتائج، إذا عرفنا الفاشية هكذا، رأيناها تظهر اليوم لأول مرة في تاريخ بلادنا المعاصر وتكتسب دلالة فعلية وواقعية وعميقة في وجودنا الاجتماعي السياسي. هذا ما حدث ويحدث في تونس.

وإذا كان هناك من مزية للأزمة الحالية فكونها تعريّ بشكل «كلبيّ / قونِيّ» فظّ عن حقيقة تلك العجينة الأنتروبولوجية الغريبة التي بلورها تاريخنا بالتدريج (وهو تاريخ «تَوْنَسَتنا») الحافل بـ«الأنوار»، وبالدساتير،وبالإصلاحات، وبالتنظيمات، وبالمؤسسات التي تعبدها نخبنا «النيّرة» وهي غافلة أو متغافلة عن ذلك الشذوذ في التركيب. ولنقل ما يقول مثلنا الشعبي: « يا مزيَّن من برّا آش حالك من الداخل؟»

فهل حُكم علينا أن نصبر على أذى مستبد مستنير قد يأتي ويطول ظله لأجيال أخرى عدة، بديلا عن الديمقراطية؟ هل مازلنا نحتاج إلى مُرَبّ أو«أب للأمة»، أو إلى مرشد يَثْقُفُ بسيفه القاطع ذلك الجذع المخشوشب أو يجمع شمل «الشتات من الغبار» مثلما نعت أحدُ «زعمائنا» شعبَه يوما؟ فيما يخصني، لا أريد ولا يمكنني أن أقبل بهذا البديل حتى ولو حاول إغرائي وأنا مشدوه قبالة هذا المشهد البائس والمحزن في حياتنا السياسية والجماعية… وفي غيرها من أشكال المعاملات العامة.

ولكن المقاومة ليست مزاجا شخصيا، بل هي من بعض النواحي عمل من أعمال العقل المستنير: خلافا تماما لما يريد فرضه البعض من أننا لسنا بَعْدُ مؤهلين للديمقراطية، ومن أنه يجب علينا أولا كسب «ثقافة» ديمقراطية أو«تربية» ديمقراطية ، فإن تلك الثقافة وتلك التربية لا تحصلان مطلقا إلا في فضاء عمومي يكون ديمقراطيا، وفي حضن حياة سياسية هي نفسها ديمقراطية على صعيد الممارسة، والحريات الفردية والعامة، والمؤسسات المنتخبة، والتقسيم الواضح للسلط وتقديس الدستور في روحه العام، وفي منطقه، وفي بنوده الأساسية.

لم توجد قط ولن توجد أبدا مرحلة ما قبل ديمقراطية، أو مدرسة إعدادية للديمقراطية، اللهم الاستبداد أو الديكتاتورية. أما الدعاوى والحجج التي يتذرع بها أعداء الديمقراطية، مثل عدم بلوغ سن الرشد العام، والعقلية التقليدية أو «المتخلفة»، ورواسب الماضي المختلفة، والفوضى، وتفكّك الدولة، فكل ذلك يدل، بالعكس، على حاجتنا الماسة إلى الديمقراطية تجاوزا لكل تلك العوائق مهما كثرت ومهما طال الطريق، وإلا فما الحاجة إلى الديمقراطية لو كنا شعبا كاملا أو شعبا من الملائكة ؟

أما عن التفكك فمتى لم تكن الدولة مفككة رغم محاولات الاستبداد الحسيني ثم ثقل «الحماية »الاستعمارية ومن بعدهما ديكتاتورية ما بعد الاستعمار؟ إن حاجة بلادنا الفتية إلى الديمقراطية أشد وجوبا واستعجالا من حاجة البلدان الغربية العريقة والمنهكة تحت ثقل مؤسساتها الديمقراطية!

ولذا فإنه قد آن الأوان للدخول في التحول الديمقراطي العميق وليس الاكتفاء بزيف «الانتقال» الديمقراطي الملغوم عن قصد وعن تدبير. والفرق جلىّ بين التحول والانتقال. حتما سيكون من العسير على جيل الشيوخ وحتى على جيل «البين بين» أن يشق طريق التحول الديمقراطي الثوري. والأرجح أن جيل الإنترنت هو من سيفتح الأفق من جديد ويستأنف الحراك الاجتماعي السابق فيبرق مجددا شعار مثل شعار «خبز وماء، الخ..». وحتى ذلك الحين علينا نحن بالمقاومة لحفظ ما أمكن من المكتسبات الديمقراطية وإلا سيلفنا الظلام السياسي من دون أن يكون في مستطاعنا حتى أن نسميه أو أن نشير إلى وجوده كما هو الحال اليوم على الأقل، رغم بؤس الواقع وضحالة تدبيره السياسي القائم.

ربما هناك من البلدان من يخسر الديمقراطية دون خسران الحرية (على معنى خاص للحرية: مثال ألمانيا النازية)، أما في تونس فإن الديمقراطية مقدمة للحرية، فإذا فقد التونسي الديمقراطية فقد حريته، وفقد كرامته الفعلية.

ماذا يعني أن تكون حرا وتقبل بحرية الرأي أيّا كان ؟

ماذا يعني أن تكون حرا وتقبل بحرية الرأي أيّا كان ؟ / حرية الرأي والموقف والمعتقد والرؤية تعني قبولي المبدئي بحق صاحبها في التعبير والدفاع عن كل القضايا التي يضدني فيها بما في ذلك نقضه للحرية نفسها، ومهما كان خلافه معي جذريا ومربكا لرأيي، ولموقفي، ولمعتقدي ولرؤيتي.

وبالمقابل، فما عليّ من جهتي إلا أن أقوّض رأيه وأن أدافع عن رأيي بالوسائل نفسها التي استخدمها هو. ويلزم أن يكون الأمر كذلك من جهته هو: الحجة القولية بالحجة القولية، بما في ذلك مثلا التطبيع مع اسرائيل أو النفخ في النعرات العرقية والطائفية، اللذين انبذهما شخصيا، الخ…

فليس من الوجيه استخدام غير ذلك من الوسائل في وجه حق الاختلاف وحق التعبير عنه ما لم يخرق القوانين المسنونة مؤوّلةّ على وجه قصدها "الأول" ("الأول" هو الأصل اللساني لمصطلح التأويل).

ولكن حتى في حالة أن مخالفي أو خصمي في الرأي لا يحترم تلك العلاقة المتبادلة بيننا، يلزمني الدوام على مبدئي وإلا ناقضت المبدأ وبررت في الوقت نفسه موقف الخصم تبريرا باتّا. إن كان لليبرالية السياسية من مزية واحدة في الدنيا فهي ذلك المبدأ، علما واني من المثابرين على انتقادها.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات