قراءة مزدوجة في روايتيْ "برج الرّومي" و"بيت العناكش" لسمير ساسي.....

أصداء الأصوات المنسيّة.

تصدير ".....كانوا يضنّون أنّ الإله إلهي أنا وحدي وإله شيخ الجامع وليس إلههم ولا يعنيهم فطفقوا يسبّونه ويتطاولون على مقامه حتّى أنزعج وقد فعلتُ....."

".....هل رأيت أناسا يسبّون ربّهم نكاية في غيرهم؟..."

"....هل كُنّا نختصم على حبّ الرّب؟ كُنّا نوغل في الحبّ وكانوا يوغلون في الوهم....وكانت بيننا العصا وسبّ الرّب....."

".....كلّما لجأنا إلى ربّنا وربّهم توهّموا أنّنا ندفع بهم خارج حديقة الحبّ فتسبقهم عصيّهم إلى أجسادنا عساهم ينالون من قلوبنا......"

بيت العناكش (ص35)

- باب للدّخول…

لقد اقتطعتُ فقرات وشذرات من الصّفحة الخامسة والثّلاثين من رواية "بيت العناكش"، وارتأيت أن أجعلها تصديرا لقراءتي هذه، لما بدا لي من أنّها تختزل في طيّاتها، وبتكثيف شديد، مجمل أحداث المتون…ولأنّها ستكفيني لاحقا مشقّة الإستشهاد بما يُمكن أن أُعزّز به هوامش قراءتي…ولأتفرّغ أكثر لتكريس جهدي للجوانب التّقنية والفنّية لهذا العمل الرّوائي المتميّز…وإن كُنت لن أغفل تماما، في سياق القراءة، عن التّعرّض لبعض مفاصل الأحداث والوقائع المهمّة إنارة للقارئ وتسليطا للضوء على البؤر والعُقد المفصليّة التي يزخر بها العمل……

- برج الرّومي…الإحالات والإيحاءات…

قبل أن أنطلق في الإشتغال على "بيت العناكش"، وأثناء قراءتي الأولى لها، كانت تجتاحني رغبة المقارنة بين العملين، و هاجس استحضار مكامن ومواطن الشّبه والتّ*باين في أثرين مختلفين للروائي سمير ساسي….ولا أعتقد أن قارئا لأعمال سمير ساسي ستتجاوزه هذه التّفصيلة، وأنّ حضور رواية "برج الرّومي" لن يفرض عليه أوجه المقارنة والمقاربة….فكانت الملاحظات التّالية…

- زمن الأحداث وزمن الكتابة….

برج الرّومي كُتبت في صلب المعاناة، وفي اعتراك المأساة..فكان زمن الحدث هو زمن الكتابة….كان الرّاوي يكتب ما يعايش ويعايش ما يكتب….كان هوالشّاهد وهو البطل….سيرة ذاتيّة للكاتب الرّاوي…ولكنّها سيرة ذاتيّة غير مُعلنة…. يُهرّب الكاتب ما يكتبه، تهريبا واقعيّا ومجازيّا…..فقد استأنس سمير ساسي عند كتابة برج الرّومي بأسلوب التّقيّة والمخاتلة، حتّى لا تكتشف عين الرّقيب مقاصد الرّواية، وحتّى يستطيع الإفلات من أسئلة الإدانة و الحشر في الزّاوية، فكانت الأسماء والأماكن، في معظمها مُخاتلة لا تفصح عن نفسها….وكانت الكتابة عبارة عن كاميرا تُتابع وتُسجّل وتوثّق الأحداث في موقعها و لحظة وقوعها….كأنّ الرّاوي يخشى إن لم يُوثّق الأحداث في لحظتها، أن تتلاشى فيما بعد بالسّهو والنّسيان….

زمن كتابة "بيت العناكش" متأخّر عن زمن الحدث….فقد صدرت الطّبعة الأولى منها في فيفري 2019…وهو تقريبا التّاريخ الذي أنهى فيه سمير ساسي كتابة روايته، في حين أنّ أحداث الرّواية ووقائعها تعود إلى ما قبل 2011، بما يعني أنّ زمن الأحداث سابق، بعقد على الأقلّ، لزمن الكتابة….وهذا ما مكّن الرّاوي من استثمار فضاء واسع من الحرّية ليصوغ فيه عمله كما يشاء وليسمّي الأماكن والشّخوص بأسمائها، دون مواربة أو تقيّة…حتّى، وإن سلّمنا بأنّ شهادات ضحايا "بيت العناكش" سُجّلت زمن كتابة الرّواية، وهذا هو الأرجح، فذلك لا يعني بأنّ زمن الشّهادات هو زمن الوقائع والأحداث…مع أنّ الكاتب لم يُشر في روايته إلى أنّ أبطالها هم شهود وشهداء حقيقيّون، بعضهم قضى نحبه وبعضهم ما زالوا أحياء…

- باب الأصوات والنّبرات…

كان صوت الرّاوي العليم في "برج الرّومي" هو الصّوت السّائد والطّاغي على بقيّة الأصوات…..ونادرا ما كانت تتدخّل شخصيات الرّواية لتناول الكلمة ولتُعبّر عن نفسها بنفسها، بل كان الرّاوي هو النّائب عنها والوصيّ عليها، والمحدّد لمساراتها، رغم أنّ الرّواية تنتمي لجنس السّيرة الذّاتيّة….وروايات السّيرة الذّاتية، غالبا ما كان الأنا فيها هو الرّاوي والبطل….وهذا ما جعلني أطلق عليها صفة السّيرة الذّاتية غبر المعلنة….فالظّروف والمناخ العام السّائد أنذاك، أي زمن كتابة الرّواية، التي كُتبت فيها وهُرّبت خارج أسوار السّجون…تلك المناخات الموسومة بالقمع والمحاصرة والمطاردة والتّضييق على الإبداع وعلى الأصوات وعلى الآراء، هي من فرضت على الرّاوي أن يتخفّى وراء شخصيات غير أناه….فكانت شخصيّة فخرالدّين، رغم آدائها ودورها العظيم في الرّواية، مُستقلّة عن شخصية الكاتب….وكان صوت الرّاوي "داخل" برج الرّومي هو الصّوت المتكلّم الوحيد…..

على عكس "برج الرّومي" جاءت رواية "بيت العناكش" متعددة الأصوات والنّبرات…..كان صوت الرّاوي بيّنا وجليّا…غير أنّه ترك المجال واسعا لشخصيات الرّواية الأخرى لتعبّر عن نفسها…تارة في شكل تداع حُرّ….و تارة في شكل حوار باطني…..وللأمانة، فإنّ الإطار العام للرّواية هو من فرض على الرّاوي فسح المجال لأصوات شخصياته لتُعبّر عن نفسها…..فرواية بيت العناكش عبارة عن شهادات حيّة استقاها سمير ساسي من بطلات روايته….وتبعا لذلك، فمن الآلي أن يترك لهنّ المجال الكافي للإسترجاع والتّذكّر والتّداعي، ويكتفي بالإنصات الجيّد….و يتولّى هو، فما بعد، مهمّة التّنسيق والتّاطير وصياغة الشّهادات صياغة فنّية وأدبيّة….وقد وفّق في هذه المهمّة كلّ التّوفيق، واستطاع، بذكاء كبير، إخراج عمل روائيّ فريد ومتميّز…

وفي كلتا الحالتيْن، فإن الأصوات تتدرّج تراتبيّا من فوق لتحت…..الكاتب أوّلا، وهو المتحكّم، من خارج النّص، في قانون اللّعبة، و في جرس ونبرة أصوات أبطاله، وبالمعجم اللّغويّ الممنوح لهاته الأصوات….ثمّ صوت الرّاوي في المقام الثّاني…وهو الصّوت الظّاهر للعيان و الموصول بالأسماع والآذان، والسّارد للوقائع والنّاقل للأحداث…و في المقام الأخير تأتي أصوات ونبرات الأبطال والشّخوص، وهي تروي شهاداتها أو تسترجع تداعياتها، أو تستحضر ذكرياتها….

- باب المعجم والقاموس….

قُلنا إنّ قارئ أعمال سمير ساسي المُقيم، يستعصي عليه أن يمرّ بعمل من أعماله اللاّحقة، دون العودة لاستحضار عمله الأوّل "برج الرّومي"، إمّا للتّقييم ولتبيان مستوى الفوارق بين العمليْن، وإمّا لمحاولة اكتشاف عناصر جديدة ومُغايرة، قد يكون الكاتب أدرجها في نصّه الجديد …

و"بيت العناكش" تفرض على المقيم بها استحضار تقنيات "برج الرّومي" التي اعتمدها سمير ساسي في نحت عمله ومقاربتها بالتّقنيات التي اشتغل بها في "بيت العناكش"….ومن بين التّقنيات المعتمدة التي سيتوّقف عندها القرّاء المقيمون، تقنية اللّغة والمعجم والقاموس….فقد بقي سمير ساسي وفيّا ومُحافظا على عاداته الحميدة في الإستئناس بمعجم لغة تراثيّ مُنزّه من شوائب الحداثة ونقيّ من فوائض المعنى….وأيّ قارئ، مهما كان، سينتبه لمستوى اللّغة العربيّة القحّة المستمدّة من المعجم القرآني، التي وظّفها الكاتب في روايتيْه "برج الرّومي" و"بيت العناكش"….ولعلّ القاموس التّراثي والمعجم القرآني في "برج الرّومي" كانا أكثر كثافة واستدعاءً وتوهّجا….

- باب التّأسيس…

إنّ الإنشغال بتأسيس عمل إبداعيّ حداثّي، له عدّة أوجه والكثير من العناوين المختلفة…من بين الهلوسات بموجة وموضة الحداثة، هوس تحطيم أصنام الطّابوهات والخوض في الممنوعات واللاآت وتجاوز الخطوط الحمر، تأسيسا وتكريسا لحرّية الإبداع….ولكلّ مبدع آلياته ومواعينه ووسائله التي يستنبطها لتأصيل اختراقاته وتثبيت أوتاد حداثته…..من بين وسائل الإختراق المُجترّة والمُتداولة وسيلة الخوض في تيمة الجنس دون موانع أو تحفّظات ووسيلة انتهاك المقدّسات والعبث بالرّموز الدّينيّة….ولم تعُد الإختراقات تُسمّى اختراقات، نظرا لمناخ الحرّية الشّائع….بل أصبح الأبداع مرميّا على قارعة الطّريق، وفي متناول كلّ مُريد…..

سمير ساسي، ودون أن يكون مهووسا أو منشغلا بظاهرة الحداثة، استطاع أن يرسم له خطّا إبداعيّا مُغايرا و مُختلفا عمّا يخطّه الحداثيون…فقد أنتج بصمته الخاصّة، و دخل عالم الحداثة من بابها الواسع، ودون استئذان، ودون استئناس بعناصر الحداثة التّقليديّة والمرميّة على قارعة الطّريق…

أن يُعيد سمير إنتاج اللّغة، والإنشغال بالمعجم التراثي والإشتغال علىه وإحيائه واستثماره في نصوص مُعاصرة، ويتمايز بذلك ويختلف عن الأشكال السّائدة، تقليديّة كانت أو حداثيّة…فذلك ما يُصنّفه في خانة الحداثيّين….ويجعل له بصمة متفرّدة في مجال التّجريب والبحث عن مواطن بكر لم تطأها أقلام المستكشفين والمغامرين……

- باب الهندسة والمعمار……

برج الرّومي…

لجأ سمير ساسي في رواية "برج الرّومي" إلى تقطيع العمل وتجزئته إلى إثني عشر عنوانا فرعيا، أراد لها أن تكون في شكل أبواب، تختلف تمديدا وتقصيرا ( 1- مدرج إلى آخر الموت. 2- أبواب القبر. 3- باب القبر الأوّل. 4- باب القبر الثّاني. 5- معبر أو ممشى. 6- باب القبر الثّالث. 7- نفق. 8- باب القبر الرّابع. 9- باب القبر الخامس. 10- باب القبر السّادس. 11- باب القبر السّابع. 12- النّشور)….هذه الأبواب أو العناوين الفرعيّة لا تحدّ من انسيابيّة الرّواية أو تقطع خطّ سيرها المستقيم…فالفروع تصبّ كلّها في المجرى الكبير وتُضاعف تدفّق السّيل نحو المصبّ…..

إذن، فبرج الرّومي رواية نهريّة بامتياز، ذات مسار واحد مستقيم، لها نقطة للإنطلاق وأخرى للوصول…..مُعزّزة بإثنتي عشر فرعا، هي دعائم انسيابيّة، لا تستقلّ بذاتها ولا تنفصل عن الأصل……

بيت العناكش…

بيت العناكش نصّ ذو هندسة دائرية….استأنس الكاتب في نحته وتشكيله بنظريّة العود على البدء…..البداية فيه هي نقطة النّهاية، ونقطة النّهاية هي خطّ البداية…تماما كما لو أنّنا بصدد مسايرة سباق عدو للمساقات الطّويلة داخل مضمار دائري….

يفتتح الكاتب سرد وقائع بيت العناكش بدفن جميلة البطلة الرّئيسيّة لروايته في مقبرة القرية، وبالحوار الباطني الذي يعتمل في ذهن والدها عبدالله….وقد كان يُمكن للكاتب أن يدّخر هذه المقدّمة لجعلها خاتمة لروايته…..وأستحضر في هذا الصّدد رواية غابريال غارسيا ماركيز "الحبّ في زمن الكوليرا" حيث تنطلق أحداث الرّواية من لحظة وقوع البطل من أعلى الشّجرة وموته الفوريّ…ثم تبدأ عمليّة الإسترجاع والإستدراك والتّذكر والعود على البدء….

كذلك "بيت العناكش" انطلقت من نقطة النّهاية، ثمّ، وفي ثنايا المتن، تقع عمليّة الإسترجاع والتّذكّر والإستدراك….وتتولّد أثناء ذلك شخصيات وافدة ومحطّات عابرة…تتناسل من بعضها البعض و تُبعث للحياة داخل النّص…..

ولعلّ الكاتب، باعتماده تلك الإستراتيجيّة، واختياره المدروس لطريقة تدشين مساحة حقله السّرديّ، كان يخفي لحظة قادحة، وعنصر تشويق هام، ومفتاحا من مفاتيح هندسة روايته، يتمثّل في إعادة الحياة إلى جميلة، ولو رمزيّا، في خاتمة النّص، وجعلها كابوسا أسود يقضّ مضجع جلاّدها ويحرمه متعة الإطمئنان والدّعة، ويُسلّمه فريسة طيّعة لفظاعة وبشاعة وعذابات الهذيان اللاّواعي وكوابيس أحلام اليقضة….وما من مُجير…..

- باب الخروج….

هامش..

كنت أهمّ بكتابة قراءة عن رواية "بيت العناكش" وحدها…لكونها آخر ما أصدر سمير ساسي….ومن المتعارف عليه لدى الكُتّاب ولدى النّقاد، على حدّ سواء، وهو تقليد صار مُتّبعا، أن يقع الإحتفاء بآخر أعمال المبدع، وإغفال ما سبق، بالإضافة إلى انّ رواية "برج الرّومي" قد أخذت نصيبها الوافر، نقدا وتشريحا وتجريحا……غير أنّ ل"برج الرّومي" معي علاقة خاصّة، ولا يُمكن أن أستثنيها، وأعبر دون أن أقول فيها كلمة…..فكانت هذه القراءة المزدوجة…..ولا أخفي سرّا حين أصرّح أنّ القراءة المزدوجة قد أرهقتني جدّا……وكم كان الإرهاق ممتعا ولذيذا…

وأختم باستعارة مقولة نيتشه، في لحظة تقييم لذاته "…كلّ من يعتقد أنّه فهم شيئاً من كتاباتي، فقد فهم منّي ما فهم طبقاً لصورته الخاصّة، وفي أغلب الأحيان، قد يكون فهم شيئاً مناقضاً لي تماماً مثل اعتباري "مثالياً ". أمّا من لم يفهم منّي أيّ شيء فقد أنكر حتّى مجرّد أن أدخل في الحسبان"

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات