من أجل توافق وطني حقيقي حول متطلبات التنمية التضامنية والإدماجية

Photo

وبعد، فقد شهدت تونس ومازالت تشهد إحدى أصعب وأعقد تجارب الانتقال الديموقراطي التي عرفها العالم منذ انهيار الدكتاتوريات بشبه الجزيرة الأيبيرية وبلدان البلقان وشرق أوروبا وأمريكا اللاتينية. هل نحن في حاجة، بعدما قدمناه من قراءة نقدية للمسار الذي أخذته الثورة تقطع مع خطابات التمجيد الفج أو التوظيف المثير للشفقة، إلى التذكير بثراء رمزيتها وأوجه عظمتها وفرادتها من حيث أطاحت بدكتاتورية عاتية بأقل كلفة بشرية وبفعل انخراط شعبي واسع جدا زلزل غطرسة المستبد.

لقد أعطت الثورة الريادة للتونسيين في تحريك المياه العربية الراكدة وأعطت المثال لعديد الشعوب كما فتحت طريقا جديدة في مضمار التعامل بين كتل سياسية وأيديولوجية كان الكثير يظنون أن عداوتها أو خصوماتها تجعلها غير قابلة للإلتقاء حول ما يخدم الوطن، ودشنت، ولو لقاء مخاض عسير أنموذجا جديدا من التعايش بين مكونات مجتمع يتمسك في غالبيته بانتمائه الثقافي العربي الإسلامي ومنفتح في الآن ذاته على تأثيرات ومكتسبات الحداثة.

باختصار أثمرت الثورة التونسية أوسع مجال لممارسة الحرية وحققت رغم مختلف أشكال المقاومة والمواقف السلبية خطوات مهمّة في مجال العمل المشترك مع الخصوم والمخالفين. بيد أن هذه النتيجة الإيجابية دون شك لا تلغي الحقيقة الثانية والمكملة وهي أن مسار الثورة والانتقال الديموقراطي كلّف تونس الكثير، كلّفها ابتداءا ضحايا الانتفاضة وضحايا الإرهاب، وكلفها الانزلاق إلى صراعات عقائدية ومواجهات سياسية جعلتها أكثر من مرة على حافة الحرب الأهلية، وكلفها وقتا ثمينا وطاقات كبيرة كان يمكن، نظريا، أن تصرف لمعالجة الأسباب العميقة المولّدة للثورة، وكلفها تصدّع كيان الدولة وتفكك أجهزتها وضياع هيبتها أمام تعدّد الاختراقات وتصاعد الاحتجاجات، وكلفها تراجعات خطيرة بل كارثة اقتصادية بفعل تعطيل إنتاج الفسفاط والبترول وتفكك جزء كبير من النسيج الصناعي وهروب الرساميل، وكلفها في ذات الوقت تغوّل أباطرة التهريب وكبار الفاسدين واختراقهم لعالم السياسة والأجهزة الأمنية والديوانية التي من مهمتها أن تقاومهم، وكل هذا بالتوازي مع تفاقم مظاهر التهرّب الجبائي وازدهار السوق السوداء والاحتكار ممّا فاقم مصاعب العيش وألغى كل مفعول لزيادات الأجور على القدرة الشرائية لغالب التونسيين.

ولقد برّر بعض السياسيين المتنفذين خلال المرحلة الماضية هذه السلبيات بمقتضيات التحوّل السياسي وأولوية العمل على إنجاح مسار الانتقال الديموقراطي بدءا بتركيز مؤسسات الحكم المؤقت ووصولا إلى بناء المؤسسات الدائمة.

وبدون مزيد الخوض في ما إذا كانت تلك ضريبة لا مناص من دفعها أم أنه كان ممن الممكن اقتصاد الوقت والجهد في مجال البناء السياسي للتفرغ إلى معضلات التنمية والتشغيل ولما لا تحسين الأوضاع المعيشية، وكذلك دون التوقف مطوّلا عند نواقص المنظومة المؤسساتية التي لم يكتمل بناؤها ولا عند ثغرات منظومة الحكم وما شابها ويشوبها من الفساد السياسي والنزعة السلطوية، فإن ثمّة درسا آخر يمكن ويجب الخروج به من التجربة التونسية، خاصة وأن ثمّة ما يدعمه في ذاكرة التاريخ المعاصر.

فحوى الدرس أنه لا يمكن للديموقراطية أن تتمأسس وتستقر وتنال الرضا الشعبي، ولو بصورة نسبية، في ظل استمرار واستفحال الصعوبات الاقتصادية وما تنتجه من إقصاء أو تهميش ومن سخط واحتقان اجتماعي وبالتالي من إمكانية التلاعب بالمزاج الشعبي وتوجيهه ضد المؤسسات.

ومن الأكيد أن آخر هواجس الشباب الذي يشعر بحق وربما بشيء من المبالغة بالتهميش أو عدم الاعتبار أو عدم الاندماج – هو المشاركة في اشتغال ديموقراطيتنا الليبرالية الجديدة بانتخاباتها وبالهيئات والمؤسسات التي انبثقت عنها. هذا ما يستخلص من انحدار الخط البياني للتسجيل وللمشاركة في الاقتراع ما بين 2011 و 2018، وما يستفاد منه هو اتساع الهوّة بين شواغل النخب السياسية المتنافسة على التأثير والسلطة أو كما يرى كثير من التونسيين على "الكراسي"، من جهة وهواجس قطاع شبابي يعيش حالة تباعد مع الأحزاب ولامبالاة بالسياسة حتى بلغ ولو بشيء من السهولة وإعفاء النفس من المسؤولية، درجة اليأس من السياسيين والحكومات.

والحال أنه لا مندوحة من بلورة سياسة بديلة وإيجاد أطر تشرك الشباب في حل مشكلاته وصنع مستقبله وتعطيه أملا بالخروج من النفق. المهم أن لا تكون سياسة سياسوية ضيقة الأهداف والأفق، بل سياسة مستنيرة بموقف المثقف النقدي وكفاءة الخبير وحكمة المجرّب. إن الديموقراطية التعدّدية اختراع رائع ولكن لا خير فيها إذا تحولت إلى مجرد واجهة ليبرالية لخدمة الفاسدين أو قنطرة لعبور قوى الهيمنة الاقتصادية والاختراق الثقافي وتدمير النسيج المجتمعي وثوابت الهوية الوطنية، من قبيل ما رأيناه من أفكار يسوّق لها باسم كونية حقوق الإنسان وما تروّج له بعض وسائل الإعلام المرئية والمسموعة من ثقافة هابطة واستخفاف بالقيم النبيلة.

الديموقراطية التعدّدية اختراع رائع ولكن لا خير فيها إذا أصبحت مجرد واجهة ليبرالية لخدمة مصالح الفاسدين أو قنطرة للاختراق الثقافي وتدمير ثوابت الهوية الوطنية

يفضي بنا ما تقدّم إلى أن الانتقال الديموقراطي لكي لا يكون مجرد تغيّر في الديكور السياسي أو لعبة قوى الهيمنة، ينبغي أن لا يقتصر على الصعيد السياسي البحت، على أهميته البالغة، وأنه ينبغي أن يستكمل بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حتى لا تبقى الكلمة الحرّة مجرد صرخة في الوادي والانتخابات الحرّة مجرد مسرحية وتلاعب بالرأي العام.

وعليه نرى ضرورة التأكيد على متطلبين اثنين تحتاجهما تونس اليوم للخروج من عنق الزجاجة وهما التضامن الوطني والتوافق الوطني لا كشعار لاكته الألسن حتى استهلكته، بل كقناعة أخلاقية و كممارسة فعلية.

نتحدث هنا عن تضامن وطني بأوسع وأعمق معانيه، تضامن يتجاوز التآزر المطلوب في الملمات أو الكوارث أو المبادرات الجزئية أو الظرفية للتخفيف من بؤس بعض الأفراد والعائلات أو مساعدة أصحاب الحاجات الخصوصية، ليكون خيارا وطنيا شاملا وطويل الأمد يتجسم في إستراتيجية متكاملة لمعالجة ما خفته الجغرافيا والطبيعة والاجتماع والسياسة القديمة والحديثة من اختلالات وفوارق وعوامل ميز بين الجهات وبين الطبقات وبين الرجال والنساء، بالإضافة إلى إصلاح ما خلفته سياسات متحيّزة أو خيارات غير حكيمة بعد الاستقلال من خلل في توزيع مقدرات التنمية بين المناطق وفي بناء قطاعات الاقتصاد وأساليب إدارتها.

كما ننوّه إلى أن التضامن المقصود لا يعني البتّة تشجيع التواكل أو انتظار أن توفر الدولة عملا ورزقا لكل طالبيه، بل هو عملية تشاركية تتحمل فيها مكوّنات كل جهة وكل مجتمع محلي مسؤوليتها في النهوض بمنطقتها وفي استحثاث الهمم للعمل وتحدي الصعوبات سواء أتت من جهة الطبيعة أو العادات السيئة. وعليه يتعلق الشأن بتكامل جهود كل من الدولة والجماعات المحلية والجمعيات والخواص وبالدفع نحو ثقافة أخلاقية اجتماعية واقتصادية تشجع على العمل والإنتاج والتوفير والاستثمار وتثمّن قيم الانضباط والنظافة، آخذين في ذلك قدوة ومثالا بلدانا كانت قبل نصف قرن في نفس مستوى تونس من حيث مؤشرات التنمية وهي اليوم في عداد ما يعرف بالبلدان الصاعدة، ومن بينها ماليزيا المسلمة في غالبها والتي بنت نهضتها على مثل هذه القيم وها هي تعود إليها مجدّدا بعدما عرفته من انحرافات وفساد، وبقيادة نفس الزعيم الكاريزمي، ماهاتير محمد الذي وضعها على سكة التطور.

وأما التوافق الوطني الذي نقصده فهو النقيض لما عرفته تونس لحد الآن من تفاهمات أو صفقات سرية في خدمة القبائل السياسية واللوبيات النافذة، وهو تطوير وتعميق وتجذير للتجربة التي انطلقت سنة 2016 تحت عنوان حكومة الوحدة الوطنية واتفاقية قرطاج التي مثلت فرصة أهدرتها قيادة حزب النداء في ظل تواطئ أو سكوت قيادات سياسية أخرى أفرطت في الحسابات حتى ضيّعت علينا كل شيء.

التوافق الوطني ضروري وممكن وهو لا يلغي الخلافات ولا يضع حدّا للتنافس ولكنه يوسّع مجال القواسم المشتركة المطلوبة للخروج من الأزمة ولإنقاذ البلاد.

ولا يعني البحث عن صيغة مقبولة ومشرفة للتوافق الوطني قفزا على الخلافات في مختلف القضايا المطروحة ولا إنهاء الجدل أو الصراع الفكري والتنافس السياسي بين مختلف الرؤى والمشاريع، كما لا يعني إطلاقا خلق حالة من الانسجام المصطنع في حقول الثقافة تؤدي إلى قتل الإبداع والتجديد والاختلاف، التوافق لا يعني أن يكون للتونسي نفس التصوّر للحرية والعدالة، ولا لما هو مقدّس وما ليس كذلك.

وأخيرا فهو لا يعني بالضرورة التوصل إلى حكم مشترك للبلاد. كلاّ، ولكنه يعني أن تونس في المرحلة التاريخية الانتقالية الراهنة، وفي وظل الحالة الحرجة التي عليها الاقتصاد والمالية والميزانية وحظوظ التنمية، هي في حاجة ماسة إلى أن تسعى سائر القوى والعناصر الفاعلة فيها للحدّ من حدّة التعارضات ومساحة الاختلافات فيما بينها وأن تسعى مع المنافسين للبحث عن قواسم مشتركة إضافية كتأويل بنود الدستور التي تطرح إشكالات مثل العلاقة بين الهوية المسلمة والطابع المدني للدولة وسبل تجسيمها، أو بين احترام الحريات الفردية والمقدسات الاجتماعية، أو تحديد القيم المشتركة والمعايير الأخلاقية التي يفترض أو توجه سلوك مكونات كل من المجتمع المدني والسياسي في تعاملها مع بعضها سواء توافقا أو صراعا وفي علاقتها بالمال السياسي وبالقوى الخارجية، وأخيرا، وهي المهمّة العاجلة والتي قد تيسّر الاقتراب من الأهداف الأخرى، الاتفاق على حزمة الإجراءات العملية للإنقاذ الاقتصادي وبالخصوص إعادة تنشيط الاستثمار، والحدّ من انخرام الميزان التجاري الناجم عن الاستيراد العشوائي ومحاربة التفصي الجبائي والفساد الملازم له، ومحاربة تهريب البضاعة المنافسة للمنتوج التونسي واسترجاع القروض ومستحقات الدولة ومؤسساتها، وتطهير مسالك التوزيع وإخضاع التجارة الموازية لسلطان القانون وأداء الواجب الضريبي.

وإذا ما حصل التقدم في هذا الاتجاه فمن المحتمل والمحبّذ التوصّل إلى صياغة منوال تنموي معدّل حتى لا نقول جديد، يجيب عن مشاكل تونس ويراعي خصوصيتها ويثمّن إمكانياتها ويعبئ طاقاتها البشرية وكفاءاتها ويعيد لنا ولها حلم النهوض من كبوتها. كل ما يقتضيه ذلك هو التحلي بروح المسؤولية وتوخي لغة الصدق والصراحة مع الشباب حتى ينخرط في عملية تعبئة عامة لربح المعركة الحالية: معركة النهوض بالاقتصاد وفتح باب الأمل بالخروج من أزمة البطالة وحالة العطالة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات