هل اخترقت الصهيونية الحصن التونسي وعششت فيه؟

Photo

مهج تونسية كثيرة مشدودة إلى فلسطين وأخرى متعلقة بالحرب المحتملة في الخليج ترجف قلوبها خوفًا من حرب أخرى تدمر العرب وثرواتهم وآمالهم في التغيير والتحرر والديمقراطية.

منذ أيام قليلة بكى تونسيون كثر بدموع غاضبة اغتيال المهندس الطيار صانع الأبابيل في غزة الذي لاحقته يد صهيونية غادرة حتى مدينة صفاقس، شواهد تاريخية كثيرة منذ متطوعي حرب 48 إلى اليوم على وقوف أغلب التونسيين مع فلسطين، الروح العامة في تونس فلسطينية، إنها قضية أم وليست فرعًا من اهتمام موسمي لكن نكتشف أن هذا ليس إلا وهم المتحمسين لفلسطين، فالصف التونسي مخترق في العمق بفئة من أصدقاء الصهيونية الذين يفضلون شرب قهوتهم مع صهيوني في باريس على أن يتحملوا وزر الوقوف مع فلسطيني مضطهد ومنفي عن أرضه.

انقسام طولي آخر يشق التونسيين إلى جانب خلافات اليسار والإسلاميين المزمنة وإلى جانب الصراعات الاجتماعية بين أغنياء البلد وفقرائه، ويتجلى هذه الأيام شرخ آخر مداره الموقف من الصهاينة ودولتهم.

مدخل التطبيع الثقافي المخاتل

نشاهد عاجزين محاولة اختراق الجبهة الثقافية في تونس بواسطة ذكية عبر خلق لبس أخلاقي مغلف بالوطنية، لقد تمت برمجة عرض ثقافي في مهرجان قرطاج الصيفي السنوي (وهو مهرجان ذو سمعة منذ تأسيسه) لممثل فرنسي اسمه ميشال بوجناح، وهو من أصول يهودية تونسية، ممثل من الدرجة الرابعة أو الخامسة فعروضه الفرنسية ليست الأكثر جماهرية بل منفوخة بإعلام فرنسي يقع تحت سيطرة الصهاينة الفرنسيين، وقد شارك سابقًا في أفلام تونسية ممولة من فرنسا بأدوار ثانوية مثل فيلم محمود بن محمود (شمبانيا مرة.)

أثارت برمجة العرض ردة فعل شعبية رافضة في المواقع الاجتماعية ويعتزم نشطاء تنظيم حملة (ارحل(dégage/ ضد الممثل ليلة العرض، فيما أعربت النقابة عن استيائها ورفضها للعرض مطالبة بإلغائه، وينتظر موقف مدير المهرجان ووزارة الثقافة التي تحججت في بيان لها بحرية المسؤول عن البرمجة وتحمله كلفة اختياراته.

الموقف الرافض استند إلى أن الممثل الفرنسي التونسي معروف بمواقفه العلنية المساندة للكيان الصهيوني وخاصة موقفه في أثناء حرب لبنان 2006 ومواقفه المعلنة في أثناء الحروب على غزة ودعوته إلى إبادة المقاومة الفلسطينية، لكن الداعين إلى فرض العرض استندوا إلى أن الممثل تونسي ويحق له الصعود على ركح مسرح بلده الأم. (لا نعلم ما إذا كان الممثل يحتفظ بعد بجنسيته التونسية إلى جانب جنسيته الفرنسية والإسرائيلية.)

وقد استحضروا مشهدًا تليفزيونيًا من أيام الثورة يبكي فيه هذا الممثل تعاطفًا مع التونسيين الذين ثاروا ضد الديكتاتورية، نفس الديكتاتورية التي كان الممثل يتحرك في زمنها بكل حرية دون أن ينطق ببنت شفة ضدها، بل يشارك في الدعاية لها في الأوساط الأوروبية بصفتها نظامًا ديمقراطيًا.

وهكذا نكتشف أن الثقافة والفن بوابة لإدخال البلبلة على التونسيين، فالمعترضون صاروا معادين لليهود، وصوِر اعتراضهم على الممثل والعرض على أنه اعتراض على يهودية الممثل وليس على صهيونيته وحشرهم البعض في خانة أعداء السامية، بينما هدد يهودي تونسي مقيم، ممن لم يهاجر إلى فرنسا مع خروج المستعمر، بالعمل على حرمان النقابة من جائزة نوبل بصفتها نقابة معادية للسامية.

ونكشف بجلاء شرخًا طوليًا عميقًا آخر بين التونسيين مداره العلاقة مع قضايا العرب وهمومهم، والموقف القومي المشار اليه أعلاه ليس إلا تعزية ذاتية عن اختراق حقيقي في أوساط النخبة المثقفة جعل الكثيرين يستعيدون مشاهد التطبيع النخبوي مع الكيان.

الآن في تونس يوجد للكيان الصهيوني أنصار يعششون في مفاصل الثقافة والأكديميا ولهم نفوذ قاهر على توجيه القرار الثقافي وعلى ما يقدم للتونسيين في مهرجانهم وبأموال دافعي الضرائب الذين تحرقهم نار الزيادات في الأسعار وآخرها زيادة ثمن المحروقات التي جعلت صيفهم لاهبًا.

الحداثة/ الفرانكفونية/ التطبيع مسميات مختلفة لشيء واحد

قد يبدو هذا خلطًا غير منهجي أو غير محايد ولكن سنبين أن هذه الأقانيم الثلاث متفقة في المضمون والغايات وإن كانت مختلفة في التسمية وليس الأمر وليد عرض بوجناح بل هو تاريخ قديم وعليه شواهد غير أنها تزداد جلاءً هذه الأيام، فالتطبيع لم يعد يُخجل أحدًا ممن نعتبره في تونس خاصة وفي المغرب العربي عامة حزب فرنسا.

ظهر منذ بداية الاستقلال صراع بشأن اللغة العربية بين من يريد فرضها كلغة وطنية ومن يريد استبعادها لصالح اللغة الفرنسية وتعويض العربية الفصحى بلهجات محلية على أنها لغة أم، وهذا مدار معركة عميقة في التعليم لا يزال دعاة قتل العربية يسيطرون فيه على التعليم وقد أوصلوا التونسيين إلى حالة شعب بلا لغة، أو بلغة مالطة.

ترادف هذا مع معركة في مجال الثقافة التي تعتبر مجالاً محتكرًا لمروجي الثقافة بشكلها ومضامينها التحديثية الفرنسية، أي النموذج العلماني الفرنسي بصفته نموذجًا وحيدًا للتحديث.

تجلى هذا في السينما خاصة، فالمنظمات الفرانكفونية الممول الرئيسي للسينما في تونس وهو تمويل يتدخل في عمق المضامين لذلك لم نر إلا سينما فرنسية يقوم بالأدوار فيها تونسيون (وميشال بوجناح وكلوديا كاردينال وآخرون من أصل تونسي)، هذه السينما وحدها التي تحظى بالتمويل العمومي ويروج لها كفتوح فنية تونسية رغم أنها لم تحصل أبدًا على سعفة من أي معدن من مهرجان كان الشهير.

ويمكن أن نجد في المسرح التونسي مضامين مماثلة، فلغة الجسد المسرحية على الطريقة الفرنسية (وإن ادعت الاعتماد على برتولد بريخت) هي المسيطرة، بينما غابت وتلاشت كل التعبيرات المسرحية الطرفية المعتمدة على الجملة والكلمة والتعبير الشفوي ونعتت بالقدامة والتخلف.

لعب فرنسيون كبار دورًا مهمًا في فرض هذه الصيغة من التحديث، وكان لفردريك ميتران وجاك لانق وهما وزيران فرنسيان للثقافة ومنذ بداية ثمانينيات القرن الـ20 أدوار مهمة لفرض هذه الثقافة وتكوين لوبي ثقافي تونسي موال لفرنسا وثقافتها، ولم تفلح الثورة في القطع معهم، ففي احتفالية الإيقاعات الصحراوية التي أنجزتها وزيرة السياحة عام 2014 بالصحراء التونسية كان جاك لانق الموجه الرئيسي الذي يتكلم فتسكت وزيرة السياحة وتضحك سعيدة بالإنجاز.

لقد صار من المعروف في تونس أن المشتغل بالثقافة لن ينال الحظوة والمال إلا إذا دخل ضمن هذا اللوبي المسيطر وقنع بما يعطيه له من تمويل بعد تعديل مضامينه على ما يريد اللوبي، فقضية فلسطين قضية ممنوعة لا تظهر في السينما ولا في المسرح، واللغة العربية ممنوعة من الحوار فوق المسرح وأمام الكاميرا، والدين الإسلامي هو حقل شعوذة متخلفة وجب السخرية منه وتتفيهه وتحقير المؤمنين به، أوامر الفرانكفونية مكسوة بلباس تحديث يروجها تونسيون يعرفون أن ثمن ذلك هو متعة التنقل بحرية إلى باريس ومشاركة نخبها آخر تقليعات الحداثة بما في ذلك الترويج للمثلية الجنسية وزواج المتماثلين في النوع، ومن أجل الغنيمة المادية والشهرة يصبح كل التحلل من الثقافة الوطنية جائزًا وصولاً إلى التطبيع، فما الفرانكفونية إلا مرحلة نحو التطبيع.

وفي هذا السياق يأتي بوجناح إلى تونس، ويعتلي ركحها ويجد من يروج له بصفته تونسيًا غيورًا على تونسيته ومحبًا لبلده وكل من يعترض عليه رجعي متخلف وإخوانجي ويهدد بالحرمان من الجوائز الدولية التي حصل عليها، ورغم ذلك فالعيب ليس في دعاة الفرانكفونية بل توجد عاهة في صف الموقف القومي والوطني المعادي للتطبيع.

عاهة أنصار فلسطين وقضايا الأمة العربية

شراسة الصف المطبع وحماسه لتفكيك عرى الثقافة الوطنية وفرض الثقافة الفرانكفونية بديلاً عنها ناتج بقدر كبير عن تفكك الصف الذي يزعم نصرة القضية ويقضي يومه منافحًا عنها ومتحمسًا للتحرير واستعادة الأرض وصيانة العرض، لقد وجد المطبوعون الأرض خالية فأذنوا فيها بالتطبيع، وهذا التفكك قديم وهيكلي ومدمر.

ثلاثة تيارات أيدلوجية عربية (في تونس كما في الوطن العربي) تناصر فلسطين (القوميين واليسار والإسلاميين)، كل له تاريخ نضالي وكل دفع ضريبة الدم في هذا المجال باختلاف الدرجات والفترات، فكلهم يعلق صور شهداء تونسيين من تياره ويعتز بهم وآخرهم صانع الأبابيل لحماس.

وحدة الموقف المبدأي من القضية لم يترجم أبدًا إلى وحدة موقف نضالي يومي بل العكس هو الحاصل، وقد تجلى الاختلاف في مناسبات كثيرة آخرها نكوص اليسار والقوميين عن المشاركة في جنازة القائد القسامي الشهيد، فهو محسوب على الإسلاميين وبالتالي فهو ليس شهيدًا لأنه بالتحديد ليس قوميًا ولا يساريًا (عند اليسار لا شهيد إلا شهيد الجبهة الشعبية وعند القوميين لا شهيد إلا شهيد الديمقراطية وعند الإسلاميين لا شهيد إلا شهيد حماس.)

ويمكن أن نعدد الأمثلة إلى ما لا نهاية لكن نضيف حادثة واحدة عندما شارك الرئيس المرزوقي في باخرة فك حصار على غزة حظي بأكبر قدر من السخرية في تونس ومن الجميع لأنه لا ينتمي لأي من هذه التيارات وبالتالي فعمله ليس مقبولًا بل مجرد دعاية لشخصه.

في الداخل التونسي لم نشهد تحركًا مشتركًا من أجل القضية يجمع هذه التيارات، فكل تحرك فيه غنيمة سياسية يريد كل تيار الفوز بها لنفسه وهذا يجري منذ أكثر من نصف قرن، لم توحد القضية فرقاء الداخل في الممارسة فبقي الخطاب خطاب مزايدة ومحاولة توريط في الخيانة، وقد زاد الربيع العربي في تعميق الشرخ، فمن أجل الكيد للإسلاميين الذين ناصروا غزة ناصر اليسار والقوميون انقلاب العسكر في مصر نكاية في الإخوان، ووصل الأمر إلى مناصرة النظام السعودي الذي يراود التطبيع ويستقوي بـ"إسرائيل".

العداء الأيديولوجي بين هذه التيارات حكم على كل المواقف والتجارب، فلا مجال لأن يفوز تيار بمجد مناصرة القضية دون الآخرين، ولا مجال لأن يتفقوا حولها ويتجاوزوا خلافاتهم العميقة، المزايدة والتخوين هي القاعدة التي لا استثناء لها.

والجميع وهذه داهية الدواهي يرى أن العدو وأنصاره المطبعين يرون هذا الخلاف ويستثمرونه، كل يوم، وآخر الاستثمارات تمرير حفل بوجناح الصهيوني على ركح قرطاج.

إذًا العاهة الأيديولوجية هي البوابة التي مر منها المطبعون لأنهم عرفوا وأيقنوا لن يكون هناك اعتراض حقيقي على ما يفعلون، إنهم يرون صف أنصار القضية مشتتًا وغير جدي وغير حاسم بل مكبل ومعوق إلى حد الخيانة، وفي مثل هذا الوضع يمكن تمرير كل شيء وليس بوجناح إلا حلقة في سلسلة من عمليات الاختراق الثقافي والسياسي تقوم بها نخبة تعرف ما تريد ضد نخبة أخرى يقتلها الحقد والجهل والعدوان بين فئاتها.

في كل حادثة تتعلق بالحرية والديمقراطية والسيادة والتحرير وهي قضايا مشتركة في الوطن العربي أقف على أن هذا الخلاف الأيديولوجي هو الذي كسر ظهر الشعوب العربية التي لم تفقد بوصلتها ولكن نخبها تخونها في كل موقف، هنا مفتاح لفهم كل المعارك ومفتاح لعلاجها ومفتاح لإغلاق باب الأمل أيضًا، فالمطبعون لم يفقدوا الأمل وقد أخسروا الشعوب الكثير بدأ بلغتهم الأم الموحدة إلى ثقافتهم الوطنية الجامعة إلى قضياهم المركزية مثل تحرير فلسطين.

ولذلك فإن أمام بوجناح وأنصاره أيامًا كثيرة لصعود مسارح العرب والرقص فوقها على إيقاع منتصر فالأرض خالية ولا أهل لها يحمونها إلا بنضال مزيف زادت المواقع الاجتماعية في تزييفه عوض تحفيزه.

عندما يخرج شباب عربي جديد عن المعارك الأيديولوجية سيصل إلى منع التطبيع وحتى ذلك الحين يمكن لفرديك ميتران أن يمد رجله في تونس.

نسيت أن أذكر القارئ العربي الذي يجهل التفاصيل المحلية أن هناك من النخبة التونسية الفرانكفونية من كان يلتقط الفحول الشابة لمتعة سيده فردريك في بيت الحمامات، فالفرنسي وجد في تونس منذ أكثر من قرن مكانًا للمتعة، وعاملها كماخور مفتوح على الحداثة الفرنسية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات