
في الحياة السياسية المعقلنة يمثل المستشارون المطبخ الفكري للفاعل السياسي مهما كان موقعه .
و بنظرة سريعة للمؤسسات السيادية في الدول الفعلية بما فيها الملكيات التقليدية و حتى الاستبداديات التي تريد افتكاك موقع في المشهد المعاصر تكتظ مكاتب القصور بخبراء يتم اختيارهم بدقة من المدارس السياسية و الاستراتيجية المختلفة ليفكروا امام الرئيس او الملك بأصوات مختلفة في الشؤون السياسية و الاقتصادية و الديبلوماسية و الثقافية و الاجتماعية ليصوغ من خلال خبراتهم المختلفة سيناريوهات سياساته العليمة بتشعبات الساحة فيضمن اكثر نسبة نجاح لهذه السياسات.
و الحق ان منصب المستشارية و منذ حكم الترويكا تحول في الغالب الى وظيفة لانتداب المعطلين المقربين او لضمان تفرغات الحزبيين و لكن حكم الرثاثة مع ،،رجل الدولة،،سيذهب بالمنصب الى أتعس من ذلك ليصبح المستشار مجرد ،،بودي قارد،،،خطابي او "بروباقانديست" تعيس في توازنات خصام سياسي لا يحكمه صراع افكار و مشاريع بل دسائس و ربط خيوط و قطع اخرى و قدرة صياح و مماحكة و كشف الصديق و العدو باستثمار علاقات سابقة في الشوارع الخلفية للسياسة البائسة
السيدة سعيدة قراش كانت في برنامج التاسعة خير تجسيد لهذا المفهوم الرديء للمستشار في عهد "حكم التحيل" و بطانة السوء كما "بن تيشة" لتمثل معه استعادة اكثر فصاحة وقحة لثنائي المرحومين سعيدة ساسي ومنصور السخيري.
لم يعرف عن قراش خبرة في صناعة الفكرة السياسية او تحليلها او حسن تسويقها و انصافا لها لم يعرف على هذه المناضلة النسوية ( "الملبرلة" بتهجين جينات يسراوية) شراسة في الخصومة السياسية ما يجعلها مجرد ضحية لطموحها من ناحية و لدهاء ساكن القصر لفلق و اختراق عائلتها السياسية المفلوقة اصلا في سياق مهارة التفسيد السياسي من ناحية اخرى.
انطلقت سعيدة من مفهوم صحيح أفسدته بعد ذلك لأنها لم تفهمه و رددته من السماع .اعتبرت أن خطاب الباجي هو اعادة هيكلة للنقاش السياسي )ريستروكتوراسيون) و هذا صحيح. في صراع القوى السياسية تكون القدرة على فرض مواضيع و وجهة و عناوين النقاش السياسي جزء من الانتصار .
لقد استطاعت المعارضة في السنة الحالية جعل الحكم في موقع الدفاع بعناوين فرضتها بقطع النظر عن صحتها و تتلخص في كون الائتلاف الحاكم بين النداء و النهضة مجرد التقاء انتهازي لمصالح متبادلة :الباجي يستقوي بالنهضة ليرسخ سلطته و يقوي جناح ابنه في سياق التوريث و النهضة تضمن لتمكين نفسها و تجنب الاقصاء عبر ترسيخ تحالف اسلاميين دساترة لإنهاء تحالف تاريخي نظام يسار .
كل ذلك عبر توفير مقومات نجاح هذا الالتقاء بمصالحة القوى المالية الفاسدة و استزلام الجهاز الاعلامي و الاداري العميق و تسويق ذلك للرعاة الدوليين على أنه "توافق تونسي فريد" بين قديم و جديد كنموذج لوصفة غربية يُراد تسويقها للعالم العربي للخلاص من عبء الاستبداد التقليدي و التحوط من ثورات شعبية حقيقية تذهب الى اقاصيها .
و الحق أن المعارضة قد نجحت في هرسلة "التوافق" الى درجة أصبح فيه الرعاة الدوليون ممتعضين فعلا من مآلات "النموذج" بعد تصدع "النداء" و انفراد جناح واحد به يعيد للتونسيين ذكرى حكم قديم لا فرق معه إلا مباركة "النهضة" له و هذا لا يكفي لسلامة "النموذج" و "جاذبيته" حسب الرعاة الدوليين .
جاء خطاب الباجي الأخير في محاولة لفرض "فهم آخر" للمشهد يحول فيه النقاش مع خصومه أمام الرعاة الدوليين على أنه نقاش بين حكم يريد التوافق و معارضة تدفع للاستقطاب و حكم يقوي الدولة و معارضة تستهدفها و حكم يدفع للتسويات و المصالحات الكبرى و معارضة حاقدة تدفع للمحاسبات و القطيعة و حكم يريد حسم الخلافات بالمؤسسات الديمقراطية و معارضة تدفع الى الشارع .
اشهاد الرعاة الدوليين كان بالتذكير بالالتزام بلقاء باريس و تحذيرهم من "ثورية" النص المعارض الذي يستعيد "فزاعات التأميم" و "المقاومة التحريرية" و ثورات "الرعاع" من ذوي النزعة "التأميمية".(قراءة بيان الكامور).
لسنا في وارد مناقشة نجاح الباجي في اعادة هيكلة النقاش السياسي و لكننا في وارد ابراز الغباء العكسي لمستشارته . قدمت سعيدة صورة الحكم متوترا شرسا حتى مع "حلفائه القدامى" بفضح تواطئهم معه (ذكر زيارة حمة الهمامي للباجي و افشاء سر الحديث) . كما اشتغلت على استحضار صورة حكم مازال في عقلية جبهة الانقاذ الاستقطابية و لو على حساب الحلفاء الجدد (رش سليانة و الارهاب و التسفير ) .كما كانت في صورة المجادل الشعبوي البائس خارج وقار المعلومة الدقيقة لمؤسسة الرئاسة (فاتورات القاروص و أخبار الفايسبوك عن وزير الترويكا) .
المستشارة أعادت الرئاسة الى الموقع الذي اراد خطاب الباجي الخروج منه. فلم تظهر الرئاسة في صورة قراش بمظهر المؤسسة المسؤولة الهادئة المستمعة لمعارضتها بل كانت في صورة الطرف المتوتر في حلبة نقاش شارعي رديء.
رداءة الحكم الحالي و ضعفه تبرز في نوعية الانتدابات التي يشتغل عليها فهو يؤسس لاستمرار صراع "الجهل المؤسس" تواصليا و مشاريعيا لأن هذا الجهل وحده هو الذي يتيح للفساد اعادة التهيكل في فراغات الانتهازية السياسية لتجار "النضال السابق" و اللاحق .