مواطن عادي : "حين دقّت ساعتي"…

حين أغلقوا البرلمان، لم أبال لأنني لستُ برلمانيا، بل مواطن "عادي"، خبزيست لا أهتم بالشأن العام ولا بالسياسة، لا يهمني إلا معاشي اليومي ومعاش عائلتي من غذاء وعمل ودراسة وصحة ونقل وترفيه... بل أكثر من ذلك : شمتت في البرلمانيين بعض الشيء لأنني أكرههم... وعندما وضعوا عددا من الشخصيات السياسية قيد الإقامة الجبرية، لم أبال لأنني لست سياسيا، بل مواطن "عادي"، خبزيست... بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره الشخصيات السياسية... وعندما اضطهدوا القضاة، لم أبال لأنني لست قاضيا، بل مواطن "عادي"، خبزيست... بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره القضاة...

وحين جاؤوا ليلا ليعتقلوا المعارضات والمعارضين السياسيين، لم أبال لأنني لست معارضا، بل مواطن "عادي"، خبزيست... بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره الطبقة السياسية وخاصة منها المعارضين... وعندما نكّلوا بالمحاميات والمحامين، لم أبال لأنني لست محاميا، بل مواطن "عادي"، خبزيست... بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره المحامين... ثمّ، عندما اضطهدوا النقابات العمالية، لم أبال لأنني لم أكُن نقابيا، بل كنتُ مواطنا "عاديا"، خبزيست... بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره النقابيين... وعندما اضطهدوا أصحاب المؤسسات الاقتصادية، لم أبال لأنني لم أكُن صاحب مؤسسة ولا مشروع، بل كنتُ مواطنا "عاديا"، خبزيست…

بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره أصحاب المؤسسات الاقتصادية جميعها، الكبرى والصغرى والمتوسّطة… وعندما همّشوا الأحزاب ثمّ جمّدوها، واضطهدوا عضواتها وأعضائها، لم أبال لأنني لست متحزِّبا، بل مواطن "عادي"، خبزيست… بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره الأحزاب… ثمّ حين جاؤوا ليُخرِجوا المهاجرات والمهاجرين أفارقة جنوب الصحراء من ديارهم ويطردوهم خارج بلادنا، لم أبال لأنني لست مهاجرا، بل مواطن "عادي" تونسي أبا عن جدّ، خبزيست…

بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني ورغم أنني لست عنصريا، أكره المهاجرين وخاصة منهم الأفارقة ذوي البشرة السوداء الذين ينوون احتلال بلادنا وتغيير تركيبتها الديمغرافية… بعدها، عندما اضطهدوا الإعلاميات والإعلاميين، لم أبال لأنني لست إعلاميا، بل مواطن "عادي"، خبزيست… بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره الإعلاميين… ثمّ، إثر ذلك، عندما اضطهدوا المثليات والمثليين، لم أبال لأنني لست مثليا، بل مواطن "عادي"، خبزيست…

بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم لأنني أكره المثليين وأتقزّز منهم… وعندما اضطهدوا الأشخاص ذوي وذوات الإعاقة، لم أبال لأنني لست شخصا ذا إعاقة، بل مواطن "عادي"، خبزيست وفي صحة جيّدة… بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني لا أحب هؤلاء الحاملين لإعاقة المتواكلين الذين يستهلكون ولا ينتجون… وعندما قرّروا حلّ الجمعيات وحظر نشاطها واضطهدوا مناضلات ومناضلي المجتمع المدني، لم أبال لأنني لست مناضلا في أية جمعية، بل مواطن "عادي"، خبزيست…

بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره جمعيات ومنظمات المجتمع المدني ومناضلاته ومناضليه… وعندما اضطهدوا الحقوقيات والحقوقيين، لم أبال لأنني لست حقوقيا، بل مواطن "عادي"، خبزيست… بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره الحقوقيات والحقوقيين المدافعين عن حقوق الانسان، بل وأكره كذلك حقوق الانسان التي جاؤوا بها من الغرب ليفسدوا بها أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا… وعندما نكّلوا بالنسويات والنسويين، لم أبال لأنني لست نسويا، بل مواطن "عادي"، خبزيست… بل أكثر من ذلك : شمتت فيهم بعض الشيء لأنني أكره النسويات والنسويين الذين يختلقون المشاكل ويعملون على تمييع مجتمعنا بتغليب النساء على الرجال…

أنا مواطن "عادي"… لم أنخرط قطّ في حياتي في حزب ولا في جمعية ولا في نقابة… لم أشارك يوما في اجتماع عام أو إضراب أو مسيرة أو مظاهرة أو اعتصام… فأنا مواطن عادي، خبزيست، أرتاد فقط المغازات والمساحات التجارية الكبرى حيث أقف ساعات طوال في الصفوف قصد اقتناء بعض ما توفّر من مواد غذائية أساسية وكمالية كالفرينة والزيت والحليب والسكر والقهوة والأرز والبيض والدواجن… لا أتحدث مع عائلتي وزملائي إلا عن ارتفاع الأسعار والمواد المفقودة وأين يمكن أن أجدها… لا تهمني أسباب ومسببات ارتفاع الأسعار وفقدان بعض المواد، فأنا مواطن عادي…

مساء كل يوم، أشاهد سلسلة "شوف لي حلّ" وأضحك على السبوعي… وفي رمضان من كل عام، أتابع المسلسلات التلفزية التونسية والعربية والكاميرا الخفية… ومن حين لآخر، أخرج رفقة أفراد العائلة للترفيه عن النفس… لا أهتم لا بالسياسة ولا بالاقتصاد ولا بالمواضيع التي لا أفهمها… أهتم فقط عرضا بكرة القدم الأوروبية وكأس العالم إذ أشاهد بعض المقابلات كل ما أُتيحت لي الفرصة في المقهى مثلا… وذلك كأغلب التونسيين… لا أهتم بالسياسة وأكره نقاشاتها… كأغلب التونسيين…

في 13 جانفي 2011، أعتقد أنني كنت حينها مع الرئيس والدولة… قلتُ : أعتقد لأنني لا أتذكر موقفي منه بالضبط… ولكنني في كل الأحوال، لم أكن ضدّه… كأغلب التوانسة… ثم وكأغلب التوانسة، أصبحت مع الثورة، لا أدري متى تحديدا، ربما انطلاقا من 17 أو 18 جانفي 2011… في انتخابات 2011 التأسيسية، صوتت لحركة النهضة كأغلب التوانسة الذين من حولي… وفي انتخابات 2014، صوتت لحركة نداء تونس في التشريعية وللباجي قايد السبسي في الرئاسية وذلك كأغلب التوانسة الذين من حولي…وفي 2019، لم أشارك في الانتخابات التشريعية بينما صوتت لقيس سعيّد في الانتخابات الرئاسية وذلك كأغلب التوانسة الذين من حولي…مساء 25 جويلية 2021، فرحتُ لمّا أعلن الرئيس تطبيق الفصل 80 من القانون أو المرسوم أو الدستور، لا أدري بالضبط. كل ما أعلمه، هو أنه طبّق عليهم الفصل 80 وجمّد البرلمان… فرحتُ كأغلب التوانسة الذين من حولي…فرحتُ لأنّ أغلب التوانسة الذين من حولي فرحوا بالفصل 80… ورغم ثقتي في الرئيس، لم أشارك في الانتخابات البرلمانية التي انتضمت في 17 ديسمبر و 29 جانفي الماضيين وذلك كأغلب التوانسة الذين من حولي…

--بعد أشهر، في شتاء 2024، داهموا منزلي ليلا، قاموا بتفتيشه، أرعبوني وأرعبوا كل مَن فيه… ثم اقتادوني لمركز إيقاف، هم أنفسهم، نفس الأعوان… طيلة ثمان وأربعين ساعة، لم أتمكّن من الاتصال بأحد، لا بقريب ولا بمحام… وعند نهاية هذا الأجل، لم أجد أحدا أتّصل به لأنهم كانوا قد اعتقلوا الجميع… ثمّ، أعلموني بالتهمة الموجهة إليّ : مخالفة مرورية كنتُ ارتكبتها قبل ثماني سنوات تمثّلت في عدم التوقف في الضوء الأحمر. لا أتذكّر بالمرة أنني ارتكبتها الشيء الوحيد الذي أنا على يقين منه، هو أنني كنت دائما مواطنا مثاليا، أحترم القوانين كلها دون نقاش لأنني مواطن "عادي"، خبزيست… لكنهم، أعلموني أنّ كاميرا مراقبة رصدتني بصدد القيام بتلك المخالفة. قال لي أحد السجناء وهو محام وفي غفلة من بقية المساجين، إنّ المخالفة المرورية قد سقطت بمرور الزمن، وإنّ عقوبتها في كل الأحوال خطية قدرها ستين دينارا.

قضت المحكمة ابتدائيا ونهائيا بسجني لمدة عشرة سنوات وبتسليط خطية عليّ قدرها عشرون ألف دينار. لم أتمكّن من استئناف هذا الحكم الجائر بحقي لأنهم ألغوا مبدأ التقاضي على درجتين.

اضطهدوني، أنا المواطن العادي، الـــخبزيست… ولكن، حين دقّت ساعتي، حين جاؤوا ليأخذوني، حين اضطهدوني، لم يبق أحد ليدافع عني…

حين كنتُ في المعتقل ومن خلال بعض المحادثات القصيرة مع عدد من السجناء المناضلين السياسيين والحقوقيين، تفطّنتُ لحجم الأفكار المغلوطة التي كانت معششة في دماغي والمتعلقة بمختلف المواضيع والأطراف التي شمتت فيها في يوم من الأيام… تفطّنت إلى أنهم لم يكونوا خونة ولا متآمرين… تفطّنت إلى أنني كنتُ عنصريا… كما تفطّنتُ إلى أنّ صفة "مواطن عادي" آلت بي لاتباع أغلب من حولي دون تفكير، آلت بي للاستقالة من الحياة العامة… آلت بي للمعتقل…

*مقتبس من قصيدة الشاعر والمناضل السلمي الألماني المعادي للنازية مارتن نيمولر "أولا، جاؤوا" (النص الأصلي أسفله*).

*مارتن نيمولر : مقتطف من قصيدة "أولا جاؤوا" : في ألمانيا، أولا، جاؤوا للشيوعيين، لم أبال لأنني لست شيوعياً. وعندما اضطهدوا اليهود، لم أبال لأنني لست يهوديا. ثم، عندما اضطهدوا النقابات العمالية، لم أبال لأنني لم أكن نقابيا… بعدها، عندما اضطهدوا الكاثوليك، لم أبال لأنني بروتستنتي… وعندما اضطهدوني أنا… لم يبق أحد حينها ليدافع عني.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات