مأسسة 'الحشد الشعبي'… والطائفية الشاملة

Photo

بمنطق الأحوال والأشياء لا يمكن الانتظار من دولة محكومة بزمرة طائفية، مثل العراق، أن تؤدي منجزا سياسيا أو قانونيا لا ينضوي صلب المؤسسة المذهبية الحاكمة منذ 2005، كما لا يمكن أيضا أن تنجح مقولات المواطنة ومبادئ الديمقراطية التعددية والرقي بالمؤسسة العسكرية والأمنية عن المطلبية الطائفية في دولة زُرعت فيها “لوثة” العصبية الإثنية والمناطقيّة.

بقرار مجلس النواب العراقي الذي يعترف بالطابع الرسمي لميليشيات الحشد الشعبي، ويحوّلها إلى جزء أساسي من المؤسسة العسكرية، ويقتطع لها جزءا هاما من الميزانية، يكون العراق قد تجاوز مرحلة الطائفية السياسية والدستورية والقانونية، نحو “دولنة الميليشيات الطائفية”.

ونعني بدولنة الميليشيات الطائفية انضواء الدولة ضمن منطق العصابات المذهبية والعرقية والمناطقية، والتطبيع التام مع الهرمية التسليحية القائمة عليها، والقبول برهاناتها الإقليمية ورهانها الطائفي، وعوضا من أن ترشّد الدولة الميليشيات الطائفية عبر تفكيكها التدريجي ونزع سلاحها وتهذيب خطابها ومسلكيتها وأدائها المقيت، تستحيل “السلطة” تابعة للفعل الميليشوي بل ومبررة له، والأكثر من ذلك متبنية لكافة الفظائع المقترفة الماضية والقائمة والقادمة.

هنا بالضبط يكمن الفرق بين الطائفية الناعمة والجزئية في لبنان مثلا، حيث تسيطر الطائفية على المفاصل السياسية وعلى بعض المناحي الاجتماعية، ولكن تبقى المؤسسة الأمنية والعسكرية محافظة على عنوانها الجامع للكيان اللبناني، ويبقى الفرز واضحا وجليا ومحددا بين الجيش اللبناني من جهة، وبين حزب الله من جهة أخرى.

وقد أنقذت ميثاقية الجيش اللبناني والأمن الوطني بلد الأرز من سقوط لبنان في وحل الحسابات المذهبية الضيقة، انطلاقا من ملحمة مخيّم عين الحلوة، مرورا بفك الاشتباك بين جبل محسن وباب التبانة بطرابلس، وليس انتهاء بتفكيك الشبكة الإرهابية منتهى الأسبوع الفارط.

وفي كلّ مرة كان السياسيون اللبنانيون يتوجهون إلى الجيش لانتخاب رئيس الجمهورية، كانت المناقبية العسكرية لهذه المؤسسة هي التي تزكي قائده الأعلى لمنصب رأس السلطة التنفيذية أكثر من مجرّد تأمين الوجود المسيحي الماروني في قصر بعبدا.

هذه الطائفية الجزئيّة، تحيلنا إلى مقابلها التناقضي، حيث الطائفية الشاملة في العراق التي انفرطت عراها إلى درجة أنّ المجموعات الطائفية صارت مرجعية للسلطة وأصبحت في موقع “ما فوق” المحاسبة والمتابعة.

وكما أنتجت لنا الطائفية الشاملة في العراق، الانسداد الحضاري والاهتراء الاقتصادي والضعف الإداري والتفتت الكياني الوطني على حساب الطائفة والمذهب والإثنية، فإنها أيضا أنجبت في سياقها التناقضي المقابل أجيالا من المتطرفين التكفيريين الخارجين عن التاريخ والجغرافيا والمنطق والأنثروبولوجيا.

ولا يعني هذا أبدا السقوط في الذرائعية التفسيرية المختلّة، حيث يصبح الإرهاب رديفا للطائفية الشاملة بقدر ما هو ركون لسياقات التحليل، حيث أن فقدان الدولة المركزيّة التجميع ولمبدأ المواطنة يفتح الباب لأكثر من فرضيّة ويسمح بالتفكير خارج فضاء “السلطة” وخارج سياق “الوطن” قد يكون الإرهاب والتكفير أحد عناوينها.

اليوم، الطائفية الشاملة بما هي تبعية الفاعل التنفيذي الرسمي للمجموعات الطائفية، وتطويع “المؤسسات” لخدمة الميليشيات، وتجنيد الموارد والخدمات العامّة لفائدة شريحة معيّنة من المجتمع، تضع العراق أولا واليمن ثانيا على فوهة البركان.

لا يخفي الوسيط الدولي في اليمن إسماعيل ولد الشيخ ورقات التسويات المتتالية والتي يفضي منطقها إلى مأسسة ميليشيات عبدالملك الحوثي وتحويلها بنفس الرهان إلى جزء أساسي من الجيش اليمني.

ولئن كان القضاء المستقل رأس المواطنة، والديمقراطية التشاركية قلبها النابض، فإنّ المؤسسة العسكرية، بمعناها الجمهوري، هي ضامنة ديمومة واستمرارية هذا المبدأ الدستوري بضمان بقاء الوطن، وأي سقوط نحو الدولة الفاشلة يكون باختلال واحدة من هذه الركائز أو جميعها في أسوأ الحالات وأحلكها.

اليوم، لا فقط تتهدّد الطائفية الشاملة بما هي تجيير وتجنيد لمؤسسات الدولة لصالح طائفة معينة مع الحفاظ على الطائفية الشكلية الساعية إلى تقسيم السلطة وفق الانتماءات القبلية، بل أيضا المناطقية الشاملة في سوريا والقبائلية الشاملة في ليبيا، وكلها أخطار تستحق الكثير من التفكير وتستوجب عميق التأمل والمقاربة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات