ستكون وستكون، وها أنا لا أكون..

Photo

فتحتُ بريد رسائلي هذا الصباح، فوجدت فيه كالعادة رسائل كثيرة من أصدقاء ومن معجبين، بعضها يطمئن على صحتي وبعضها يوصيني بالحذر وبعضها يسأل عن أخباري، لكن رسالة وحيدة كانت مختلفة، رسالة كأنّها وصيّة، من صديق افتراضي لم تتخطّ صداقتنا وسائل التواصل الاجتماعي، رسالة صادمة، ولا أعرف حقيقة هل فارق صاحبها الحياة فهي في بريدي منذ يومين، وألحَّ عليّ أن أنشرها حتّى وإن لم يصلني نعيه، وها أنا أنقلها إليكم:

لم أكن أعلم حتّى وقت قريب أنّ هذه الكائنات المجهرية قد استوطنت جسدي، جسدي المنهك منذ سنوات لا يُغري بأيّ شيء، هو طوال سنوات أشبه بجثّة هامدة، ومع ذلك اتّخذته سكنا، كأنّها كانت تعلم أنّه لن يتمكّن من مقاومتها،

لا أعلم حقيقة كيف تسرّبت، وأيّ منفذ سلكت، حدث ما حدث وانتهى الأمر، لم تُمهلني حتّى أُعِدّ حقيبتي وفرشاة أسناني أو أحلق ذقني، فقط أنا ممتنّ لهذه الكائنات لأنّها أمهلتني يوما آخر حتّى أجاهدها وأجاهد النفس لأكتب هذه السطور التي ستكون آخر أثر لي في الحياة،

أنا في هذا القبو البلاستيكي منذ أيام في محاولة من الأطباء لإنعاشي، أنا أُكبر جهدهم دفاعا عن الحياة، لو كنت قادرا على الكلام، كنت سأقول لهم الموت الرحيم يليق بي وفيه خلاصي من جحيم هذا الألم، ولكنّهم كانوا يواصلون حربهم الضّروس من أجل الحياة،

هم لا يستسلمون أبدا ولا تجتاحهم الهزيمة ولا يغلبهم الإحباط، لهم البقاء وللحياة، أمّا أنا فعليّ أن أذهب فقد صرتُ عبئا عليهم وعليها وعليّ.

في عمق هذا القبو، وفي قمّة الألم أتذكّر نبوءة عرّافة قالت لي ذات يوم ستكون وستكون، وها أنا لا أكون..

أعتقد أنّ الأحبّة خارج هذا البيت البلاستيكي قد حملوا معهم المكان والزمان وغادروا إلى البعيد.. البعيد، وأنا أثق فيهم، أعرف أنّهم لا يهربون، ولكنّهم يحمون الحياة..

لا تسأل عن التقطعات في نصّي ولا عن الفراغ بين كلماته، ولا عن بياض يغلب عليه فأنا بالكاد أخطّ الحرف وأرسم الكلمات.

فهذه الجسيمات الضئيلة لا متناهية في الصّغر ولكنّ ألمها لا متناه في الكبر وأثرها لا ينقطع، قبل أن أدخل هذا القبو، رأيت صورها، ذكّرتني بكائنات خرافية مرعبة لوّنت طفولتي، وظننت – حين تأمّلت مجسّاتها- أنّها من نسل مصّاصي الدماء، وهاهي تمتصّ الحياة حدّ الثمالة.

استوطنت هذه الكورونا مفاصلي ورئتيّ، اخترقت صدري كغابة مسامير وانتشرت في كامل الجسد، أحسّ بدويّ انفجاراتها كألغام مزروعة هنا وهناك داخل جسدي، وينتشر لهيبها ليحرق حلقي وتتيبّس معه عروقي، لو أمهلتني لحظة لعاتبتها قائلا " لقد استضافك هذا الجسد، واحتضنك ومنحك الحياة، ولكنّك لم تصوني العهد وغدرتِ به ".

ما يؤلمني أكثر أنّي كنت أمنّي النفس بأشياء كثير في حياتي وعندما فشلت في تحقيقها، قلت لنفسي "غدا عندما أموت سيفتقدني الناس وينعاني كثيرون " وحلمت بجنازة مهيبة يحمل فيها نعشي أصدقاء ويسير خلفي أخلاء وحتّى غرباء، وأمّا اليوم فقد انتهى هذا الحلم، سأموت وحيدا، وسيدفن هذا الجسد في حفرة أو سيحرق، وسينهون مراسمهم بأقصى سرعة ممكنة، فجنازة كهذه تعطّلهم عن حربهم اليومية المتواصلة، فلا وقت للاعتبار، فقط سأكون رقما جديدا يُضاف إلى أعداد قتلى هذا الوباء..

ولكن ما يخفّف عنّي ألمي، وربّما يشعرني ببعض السعادة، أنّ موتي سيكون درسا للإنسانية، موتي قد يمنع موت آخرين.

ورغم كلّ شيء فسأكون مرتاحا لأنّي على يقين أنّني لم أكن سببا في ألم الآخرين ولم أنقل هذا الوباء إلى غيري.

وختاما، أوصيك – صديقي - غدا عندما تستعيد الحياة بريقها، أن تقف في أيّ مكان من هذا العالم، وأن تستقبل أيّ وجهة شئت وأن تُحدّثني كيف انتصرت الإنسانيّة على ألمها، وتُحدّثني كيف تجاوزت هذه المحنة، ولا تنس أن تصافح أطبائي واحدا واحدا، وتحتضن الحياة..

وداعا

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات