لإيـلاف الخـطاطــيـف…

Photo

لا يزال يراقب الخطاطيف……إنّها تتجمع فوق الأسلاك جنبا إلى جنب، تعرض نفسها على أشعة الشمس عرضا تتلاصق أجسامها المخروطية وترسل أصوات وزقزقات مخصوصة. يمتلأ كـلّ شُروق بهــذا المشهد. دون إنذار تقـلع إقلاعا جماعـيا في الهـواء وتقفر الأسلاك من سيقانها الدقيقة وألوانها اللطيفة.

على أنّ ألوان الخطاطيف تبدو غير مجاوزة لرمزية الليل والنهار، فظاهرها أسود وباطنها أبيض. لكن تفاصيل الألوان تتخلّق عندما نمعن النظر,أطواقها تتزاحم فيها تفاصيل الحمرة اللعساء أو القانية أو اللون البنيّ الداكن أما أجنحتها التي تكسوا ظهورها فغالبا ما تكتسحها الزرقة اللامعة تلك الزرقة التي نجد طعمها في حاسة الإبصار .إنّها تبحر بنا في أقواس من ألـــوان الفردوس فهي زرقة تسعى فيها جـزيئات الخضرة سعـيا و تتقلب في طياتها أثناء كل حركة.

أما بطونها البيض فغالبا ما تتعفّر بلون الطين الأصفر ويتكثّف الخضاب من درجة باهتة إلى اصفرار داكن تتسرب منه رائحة التراب النقيّ ذالك التراب الآدمي الصرف رمز البناء، ذلك التراب المسلح بقشّات تنتخبها الخطاطيف انتخابا كلما أقبل فصل الربيع… تنهّــد من وراء الثقب وقال: ليت البناء كان تربة الخطاطيف…

نقـل الأثيرُ موجاتِ الأصوات إلى أفئدة الخطاطيف… صارت تلتصق بمحيط الصوت …مسّها كالجنون، ها هي تتشمّم الهواء وتستشعر الذبذبات، تقلّب وجوهها في السماء حمّالة كلّ صوت… الصوت يقترب …

يتعاظم إنه كالخطوات.. جري…ركض.. جلبة…آه إنّهم حشود من الناس يتجمعون… مثلنا… لكنهم صفوف كثيرة غير منتظمة. إنّهم يعتلون الأشجار والأعمدة… مثلنا… إنهم ينظرون في اتجاه واحد… البناية الرمادية إذن… إنهم يشيحون بأيديهم يسألون الرحيل لمخاطب ما…. ما بـ…هم…؟ قالت الخطاطيف: مازال لم يلتحق منا إلا أسراب قليلة لا تتجاوز المائة ألف. لكن هؤلاء الناس يطلبون الرحيل… لم يطلبون ذلك…؟

لكن الصوت الأول لا يزال صداه يرن في مسامعنا …ليس هذا مرادنا نحن لا نعتني بالتجمعات الكبرى بل نحن نطلب صفاء التركيز مع الأصوات الحقيقية هذه أصوات صاخبة تجرى تحتها شتى أنواع الأعمال ليس لها روح موحّدة فلنترقب.. انفض الجماعة مساء ثم بدأت حركة ليلية مشتتة عاد على إثرها الناس إلى حياتهم وقد صار الصّخب وسيول البشر تغمر إطراف الشارع من حين لحين.. ليس هذا مشغلنا ثمّة صوت سمعناه ثم مسحته الأصوات الصاخبة وتشتت تركيزنا فلنعد التركيز…قبيل الشروق.

سنرتقي الأسلاك ونُصْخِي لذلك الهاتف… كان المارّة يتجمّعون منذ شروق الشمس دوائر دوائر حول أشياء مبثوثة في جنبات الطرق أو على جادّة المترجلين زخّات من جثث الخطاطيف تسّاقط في الشارع الرئيس. بعض المارة المبكّـرين يتجمعون حولها. بعضها لا تزال أجنحته تخفق قبل أن يلفظ آخر أنفاسه…

القطط السّوداء والرقطاء كثيرة لكنها أضربت عن أكل العصافير رغم عدم حرمة لحم الخطاطيف في ناموسها. تكاثرت القطط واعتلت النوافذ والجدران وسطوح المنازل وكل شبـر من أرصفة الطريق. صار الناس بين مغمىً عليه من هول ما يعرضه المشهد… خطاطيف تنزف … قطط تئن دون انقطاع…

تحمل بين أيديها شموعا …لا…بل هواتف ذكيّة… نسوة يتلحّفـن بالأبيض يحاولن استرجاع قططهن الراقية والمؤدبة يقتربن… يقتربن متوسلات رجوعهنّ. صدرت أصوات بعضها كالزئير وبعضها كالبغام من حناجر القطط الجميلة …ذعرت رباتهنّ وانسلخن من المشهد انسلاخا دامعا.. لا… بل داميا..

سالت مشاهد العراك في أفانين عجيبة تجوب شوارع الشبكات التواصلية أيضا. ظهرت علامات الإعجاب باكرا. واحد معجب..أربع معجبين… عشرة.. تسارعت الإبهامات في معاصمها سابحة في الفضاء أسرابا… أمواج بحار…

الخطاطيف بأيدي الرجال و أعوان الشرطة و المصالح الطبية و في حِـلـقِ الصحفيين المحلّيين و المراسلين من شتى أصقاع الأرض حضروا مع بلوغ شمس باب البحر ضحاها… باب البحر لونه أيضا كالتراب، تحت هذا الباب عشرات من الخطاطيف لا تزال تنزف. قال مراسل:قرّب عدسات الكاميرا إنها تنزف من مناقيرها… لكن أين المناقير؟ لا نرى لها سوى بقايا مناقير غارقة في دماء تريد أن تجفّ. وصلت أنباء عن حصول هذه الظاهرة في خطّ يربط المدينة بجهة بعيدة قال الشهود في كل محطة نرى طائر خطاف يهوي نازفا وكأنه يعرض حاله على المسافرين…محطات سيارات الأجرة …محطات القطارات…محطات الحافلات…حضر شهود آخرون قالوا: لم نر في رحلاتنا شيا من هذا الأمر… ولكننا جئنا من الشمال…

صاح صائح وقد اعتلى عامودا كهربائيا: لابد من دفن هذه العصافير…. إنه نذير قد يمهّد لأمر لا ندركه… قال موظفون في إدارة الفلاحة: سوف نجمعها ونحرقها في سراديب تجنبا لكل المخاطر…صرخ طبيب بيطري: لا تحمل هذه العصافير أية خطورة لقد اختبرناها باكرا في قسم الطوارئ بمعهد الاختبارات الجرثومية لا فائدة من حرقها.. كثر الجدال وتحول إلى اشتباك بين داعين إلى مواراتها التراب كما فعل غراب قابيل وبين داع للحرق كما توصي بعض النواميس الشرقية… سأل سائل: ما الذي أدى إلى موتها يا عباد الله…؟ ابحثوا عن سبب موتها. إن بعضها يأتي من جهة ما ثم يقف على الأسلاك ثم يهوي. أية جهة…؟

جرى العباد في هرج ومرج في اتجاهات جنوبية للشارع الرئيس وجنوبي باب البحر أيضا…بقي آخرون يتدارسون الموقف ثم تقرر إعلان هيئة لمتابعة حالة الخطاطيف. لم يبزغ فجر الغد حتى كانت السيارات والشاحنات تحمل أكياسا مملوءة خطاطيفا يرافقها مئات المشاركين الذين بدؤوا يتخمّرون بآيات الخطاطيف في حين بقيت جماعات من الأناسي تصطخب في موضوع الخوارق…متجاهلة مسألة السائلين… تكاثرت قوافل المشيعين لجنازات الخطاف… في كل مربض يلتحق بها أناس متشوفون لمعرفة الحقيقة…اعترضت بعض دوريات الشرط القوافل وحاولت منعها ولكن هول الجموع حال دون الاعتراض.

الزقزقات والصوصوات ترتفع من على جنبات القوافل…كانت الأسلاك الكهربائية على طول المسافة مغطاة بأفراخ السنونو، تعزف سنفونيات الفـرح. أحـسّ الناس بشعـور عجـيـب,لعـلّ الجنازات ليست لمـوتى …أتكون لشيء غريب..؟ ألا تكون الخطاطيف موضوع الجنازات…؟ أخرج أحـد المرافقين من كيسه خطافا وقال: إنه ميت. لقد برد جسمه ويبس وسكنت روحه… قال آخر: يا إلاهي لماذا تصرّ هذه الكائنات على مرافقتنا…مرت ساعة…ساعتان…ساعات…الأعداد تتزايد، قوات عسكرية ظهرت فجأة ثم بدأت بتيسير عبور القوافل، ظهر مشائخ بلباس جنوبي برنس.. زاورة.. ملحفة…قليلا ما ترى القشابية…

دخلت القوافل بعد سبع ساعات ونصف شارع الباب الشمالي للمدينة كتب في بابها "هذه كابس" ثم بدأت تتوغل في أجواء سيطر عليها الخشوع والرهبة. السماء مغطاة بشتى أنـواع الطيور المعروفة والمجهولة وحتى الخيالية منها رأى الناس " العنقاء " و " أثون " صاحب "برمثيوس". بلغوا مقبرة المدينة، بدأوا يطأون بأقدامهم بابها، ضجّت المقبرة. نزل شجر كثيف من السماء ثم ارتج على غصونه بسحب الطير أضرابا حتى أقفرت السّماء..لا…بقيت "العنقاء" و "أثون" .

ألوان السحب تتلون بين الأبيض والأحمر الأبيض ترافقه ساعة وقت الضّحى أما الأحمر فتسببه ظلال الأصيل واحتكاك الأشعة بالسحب. تطلّع الناس لهذا الحال وبدؤوا يفرغـون الأكياس على حافة القبور المحفورة بين الأشجار في صفوف مستقيمة تحفها شجيرات مزهـرة بشتى الألوان تنبعث منها روائح تعطّر المجال وتغمره في رحلة خمرية يتناسى فيها العباد جوارحهم، يسبحون للحظات طوال في سماء الأبيض والأصيل ثم يستيقظون واقفين مندهشين للعرف الشذيّ المنبعث من جنبات تلك الدّنى. اخترق المشهد صوت وقال قائل: في سيقان الخطاف رسالة…

قال أحدهم: إنه خاتم المنظمات البيئية رد آخرون: ليس خاتما إنه شيء آخر. أخذ واحد الخطاف و نزع منه الرسالة و صاح (…ألف و تسعمائة و واحد و…هو..) صاح ثان: رسالة أخرى كتب فيها (… هو……) ثم انهملت الرسائل من سيقان الطيور…. من الذي يقرأ الرسائل أمن تحت الأرض؟ أم في عنان السماء؟ اشرأبّت أعناق الناس نحو الفضاء فتلقّفتهم العطور الشذية فعادوا إلى حميّا الخمرة تنسيهم جوارحهم، تهيم أيديهم في بحر السماء وتتحرك أرجلهم في دوائر صغيرة لحظات متباعدات ثم يعودون إلى ما هم فيه ويستمعون… (عائشة…هو… عثمان…هو…) على هذا الرقم انطلقت دفعات من الخطاطيف في طيران عمودي نابعة من الأرض.. هو.. مع كلّ معلومة تتطاير مجموعات من العصافير في الأجواء.. يستمرّ نفير الخطاطيف…هو…هو…هو..هو…هو .

تكوّنت في الجوّ كراديس من السحب ثمّ بدأ بعضها يصوّب نحو الشمال …. صرخت عائشة و بيدها طفل ينظر بدهشة للناس: أبي كان كمال..هذه ورقات تخصّه. تستفـزّ الرضيع أجنحة العصافير فيمد يده ليلتقطها من الهواء. تتواصل القراءات …مازالت أسراب الطيور تواصل هجران المكان وجماعات الخطاف تبعث من مرقدها وتطير ملتحقة بقوافل أخواتها نحو الشمال.. زخّات من الدموع تتصاعد منها أبخرة في الجوّ تعيد العرف الشذي تختلط بحفيف الأجنحة وشفق الجوّ فتعود للناس خمرتهم مخضبة بالبكاء…يطلقون أيديهم في الفضاء وترتمي أكفّهم في الهواء وتدور السيقان في دوائرها مكدودة الخطو …لحظات ثم تهدأ.

وتستمر الأنباء الرسالية.. (…القفة …هو…) قال بعض اليقظين ممن حضر: سنوات…. صاح مقرئ آخر: رسالة مخـتـلفة الألوان… سقطت مجموعة كثـيـفة من ريـش " أثـون " مضمخة بالدماء ثم تلتها قبضات من ريش "العنقاء" الطائران يحلقان في ارتباك كبـيـر.. (سنة ألفين وعشرة …هو..) هكذا دلّت رسالة قدمها شيخ تخلل القوم.. عند ذالك سقط الطائران على الأرض وبدآ يتخبطان بعيدا عن حشد العباد…ذهب صبية لمعرفة الأمر… الشيخ يتقدم ويمسك بساق شجرة ثم يصرخ: الطيور الخطاطيف…لقد تجمعت…تجمّعت….

حول الجسر… ثمّ بدأت تنقر ثم تتساقط متضمخة بدمائها… هكذا حدثني هذا الهاتف الذكيّ من العاصمة. ما إن أكمل الشيخ شهادته حتى نفدت العصافير وأقفرت المقبرة من أشجارها وانمحت من الساحة المجاورة أطيارها وبقي الناس يظنون الأرض تحدّث أخبارها…ارتفعت أيديهم من جديد وسرت نفحات العطر المضمّخ بالشفق تسيل عليه أجنحة زيتية من بكاء الوليد الصغير تحمله أمّه حسرة انطلقت الأيدي في خمرتها والسماء في ركود أصيلها. الأم تحمل الولد وتتقدّم والناس سكارى والشيخ الهرم يتمتم ببقايا حروف ممّا سمع…الأرض تحدث أخبارها…والخطاطيف تكشف أسرارها./.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات