عما يخبرنا تخلي البلديات عن صلاحية إبرام عقود الزواج من طرف ضابط الحالة المدنية وحمل المواطنين والمواطنات على إحضار عدلي إشهاد مع خلاصهما من طرف طالب الخدمة؟
هل الأمر بمثل هذه البساطة كما يريد البعض بذريعة أن قانون الحالة المدنية (قانون عدد 3 لسنة 1957) يسمح بإبرام الزواج بصفة إرادية على طريقتين " إما أمام عدلين او أمام ضابط الحالة المدنية بمحضر شاهدين من أهل الثقة ".
فما الحرج من هذا العمل؟ ألم يف العدول بالحاجة وهم وهن -منذ اكتساح النساء هذا الهيكل-من أهل الحجة والشهادة وأصالة الرسوم.
ليس الأمر بالهين، إذ يكشف الوضع عن الفوضى الدستورية والتشريعية التي تمر بها البلاد والتي تستهدف من ناحية اللامركزية المحلية (1) وتضرب من ناحية أخرى عماد الدولة-الجمهورية وهو الحالة المدنية (2).
1. استهداف اللامركزية المحلية
لقد أجبرت البلديات على هذا البديل بعد حل مجالسها جميعها دون موجب أو سابق إعلان بمجرد مرسوم (عدد3) صادر عن رئيس الجمهورية في 8 مارس 2023 قبل أشهر قليلة من انتهاء عهدتها وبعد سابقيه حذف وزارة الشؤون المحلية وإلحاقها بوزارة الداخلية. لم يأت حل المجالس على منوال إجراءات النيابات الخصوصية المتبعة إبان ثورة 2010-2011 ولا بالأحرى ومن باب أولى في تناغم ومجلة الجماعات المحلية (قانون أساسي عدد 29 لسنة 2018 مؤرخ في 9 ماي 2018) التي تم تجاهلها وضرب مقومات اللامركزية المحلية التي أقرتها من انفراد القانون بإحداثها، وتدبير حر في إدارتها، وانتخاب مجالسها، ومساواة على أساس الجنس بين مسيريها، واستقلالية مكوناتها الإدارية والمالية، وديمقراطية في علاقاتها التشاركية مع المواطنين والمواطنات والسكان.
صدر مرسوم الحل خاليا من كل مستندات دستورية ومرجعيات تشريعية ومقدمات أولية وحتى منافيا لمقتضيات الدستور الجديد من حيث الصلاحيات المخولة لرئيس الجمهورية باتخاذ المراسيم ( أي قرارات صادرة عن السلطة التنفيذية في مجال القوانين) والمفروض أن يقع تفويضها حسب الحالات لغرض معين ولمدة محددة من مجلس نواب الشعب أو خلال العطلة البرلمانية أو في مدة حل المجلس والتي يتوجب في كل الحالات عرضها على مصادقة مجلس نوّاب الشّعب"، وكذلك من حيث الأحكام الانتقالية للدستور الجديد التي حددت "استمرار العمل في المجال التّشريعيّ بأحكام الأمر الرّئاسيّ عدد 117 لسنة 2021 المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلّق بالتدابير الاستثنائيّة إلى حين توليّ مجلس نوّاب الشّعب وظائفه بعد تنظيم انتخابات أعضائه " انتخابات أجريت، كما هو معلوم، في الجولة الأولى يوم 17 ديسمبر2022 وفي الجولة الثانية يوم 29 جانفي 2023، بلغت نسبة إقبال الناخبين فيها أدنى مستوى 11.2% في الجولة الأولى و 11.4% في الجولة الثانية.
في هذا السياق جاء مرسوم حلّ جميع المجالس البلدية إلى حين انتخاب مجالس بلدية جديدة -لا زلنا بانتظارها- فاقدا لكل أساس قانوني مع تكليف الكتابة العامة للبلدية بمهمة تسيير الشؤون العادية للبلدية وإدارتها تحت إشراف والي الجهة.
لا غرابة إذا، أمام هذا الفراغ المؤسساتي، ان تلجأ الكتابات العامة للبلديات الى الحلول المتاحة حتى وان كانت منقوصة وأن تتنازل عن صلاحياتها لصالح العدول في مادة إبرام عقود الزواج المدنية، الموكولة حصرا الى من له صفة ضابط الحالة المدنية من رؤساء البلديات، وولاٌت، ومعتمدين أولين، ومعتمدين، وعمد.
وأمام المجهول دخلت البلديات أو بالأحرى ما تبقى منها في سلوكيات غريبة أقل ما يقال عنها أنها لا تمت بأية صلة الى الشرعية، فهنالك من فوض الأمر للكتابة العامة، وثمة من تحصل على اتفاقيات خدمات مع عدول الجهة، وهنالك أخيرا من استأجر قاعة البلدية "كصالة أفراح" دون إسداء الخدمة المدنية لإبرام عقود الزواج.
فأمام هذا الوضع الهش يبقى السؤال مطروحا حول مستقبل الديمقراطية المحلية والجماعات الترابية في ضل مشروع البناء القاعدي وما يتبعه من إتلاف مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة.
2) ضرب الحالة المدنية، عماد الدولة-الجمهورية
يواكب تاريخ الحالة المدنية فكرة النظام الجمهوري أي نظام المواطنة المشتركة والتساوي فانتهى المسار الأول الى صدور القانون المنظم للحالة المدنية في 3 أوت 1957 الرامي الى ضبط شروط التصريح بالولادات والوفيات وتحرير عقود الزواج وترسيمها وإدراج أحكام الطلاق وترسيمها وذلك في نظرة استقرائية لمستقبل الأسرة التونسية الحديثة تزامنا مع مجلة الأحوال الشخصية ( 13 أوت 1956) وانتهى الثاني الى إعلان الجمهورية من "نواب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي"( 25 جويلية 1957) والذي اعتبره دستور الاستقلال (1 جوان 1959) "خير كفيل لحقوق الإنسان وإقرار المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ولتوفير أسباب الرفاهية بتنمية الاقتصاد واستخدام ثروة البلاد لفائدة الشعب وأنجع أداة لرعاية الأسرة وحق المواطنين في العمل والصحة والتعليم".
لم تتوصل السلط الاستعمارية في تونس لإرساء نظام رسمي وموحد للحالة المدنية رغم بروز جذوره منذ سنة 1886، تاريخ فرضه على الجنسيات الأوروبية فيما يتعلق حصريا بترسيم الولادات والوفيات (أمر 29 جوان 1886) مع إتاحة فرص إبرام عقود الزواج أمام ضابط الحالة المدنية بصفة طوعية واختيارية لمن يريد اتباعه من الجاليات الأجنبية.
أما بالنسبة للتونسيين من المسلمين واليهود فلقد تعثر المسار أمام حجم الاحتجاجات والتخوفات من تأثيرات الحالة المدنية على النظام الشرعي للزواج واحتمالية انتهاك مقوماته الدينية والتقليدية الإسلامية واليهودية فتراجعت السلط الاستعمارية عن مشروع الحالة المدنية واكتفت بتعميم نظام ترسيم الولادات والوفيات الجاري به العمل منذ سنة 1908 مع التأكيد تبعا أن مقتضيات امر 30 سبتمبر 1929 المتعلق بالشكل المدني لترسيم الزواج والطلاق لا تنطبق على الأهالي التونسيين.
مكث الزواج زمنا طويلا على حاله المتفرع حسب الدين والملة على طريقتيه المعهودتين إما العرفية بتبادل الرضا شفويا أمام شاهدين من الذكور أو بإبرامه حسب الشروط الشرعية للأحوال الشخصية أمام عدول وترسيمه بدفاترهم الموثوقة من المحاكم الشرعية الى أن حلت "الثورة التشريعية" للأسرة التونسية في سياق الاستقلال الوطني باسترجاع السيادة الوطنية وبناء الدولة الحديثة والجمهورية مع أزاحت مؤسسات المجتمع التقليدي الذكوري الإقطاعي واستبداله بمجتمع المواطنة والمساواة بعد إعادة النظر في الأحوال الشخصية وما تبعها من ضبط الحالة المدنية.
لا حاجة لنا من الخوض في الإصلاحات الجوهرية التي أدخلت على المنظومة القديمة الرامية إلى التغيير الاجتماعي الشامل وإرساء نظام عام مدني يقوم على علاقة مؤسساتية مواطنية بين الفرد – (المواطن والمواطنة) والدولة الوطنية. لنكتفي بذكر أهمها: منع تعدد الزوجات وترسيخ الأسرة الزوجية، إقامة الطلاق القضائي عوض من التطليق الأحادي الذكوري، التعبير عن الرضا عوض من مؤسسة الولاية في الزواج والجبر عليه (3 أوت 1956 مجلة الأحوال الشخصية) ، توحيد القضاء التونسي وإلغاء المحاكم الفرنسية نهائيًا (مارس 1957)، حل المحاكم الشرعية (ماي 1956) واليهودية (سبتمبر 1957). تنظيم الحالة المدنية (1 أوت 1957)، إلغاء الأحباس الخاصة مع ضم الورثة الذين تم عزلهم بالحرمان بمن فيهم الزوجات وأحفاد النساء (18 جولية 1957)، إعلان الجمهورية (25 جولية 1957)، اعادة تنظيم خطة العدالة (1957) إقرار الولاية العمومية، والكفالة والتبني (1958)، الاعتراف الدستوري بالمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات (1 جوان 1959)، إقرار الوصية الواجبة للأحفاد وحق، الرد للبنات للاستفادة من ميراث الوالدين كاملا (1959) إصدار قانون التعليم (1960).
فكيف لنا العودة الى نظام العدول حتى وان أوكلت لهم صفة المأمور العمومي بتحرير وتوثيق العقود والتخلي على دور ضباط الحالة المدنية بوصفهم الممثلين الرسميين للدولة باعتبارها الكائن المعنوي الحاضن للمجموعة الوطنية على أساس روابط ا الانتماء الى الوطن والمواطنة التي يشترك فيها الأفراد وتحدد علاقاتهم بالدولة والساسة نظرا لما لهم ولهن من حقوق المواطنة وما على الساسة من واجبات إزاء المواطنة لتحقيقها وصيانتها وتعزيزها؟
هل سيتم تدارك هذا الوضع الوخيم أم أننا بصدد معايشة التفكيك الممنهج لمؤسسات الدولة الوطنية مع تغيير وجهتها بنظامها الجمهوري؟