حين يكون اليساري إنسانا قبل كل شيء

نهاية ستينيات القرن الماضي وبداية السبعينيات كانت موجة اليسار هي السائدة في تونس في أوساط الطلبة والمثقفين بل وكان لهذا التيار قصب السبق في معارضة سياسة الحزب الواحد والقائد الواحد التي كرّسها الزعيم الحبيب بورقيبة.

كانوا مجموعة من الشباب الماركسيين المتحمّسين، تعرضوا لحملة إيقافات واسعة وتعذيب شنيع ومحاكمات ظالمة، ورُمي بهم لسنوات في سجون هي الأسوأ على الإطلاق، مع مضايقات طالت أهلهم وأرزاقهم حتى بعد خروجهم من المعتقلات.

اختلفت بهم السبل بعد ذلك فمنهم من ترك السياسة، ومنهم من لم يفعل إلى الآن، ومنهم من صار وزيرا في حكومات زين العابدين بن علي، ومنهم من انخرط في العمل الاجتماعي والثقافي معتبرا إياه الأفضل والأبقى.

من بين هؤلاء محمد الصالح فليس الذي صدر له مؤخرا كتاب بعنوان «ساكن في اسمي» وهو عبارة عن سيرة ذاتية وإن لم يكن الوحيد في سلسلة كتب كان أصدرها عن تجربته وتلك السنوات الحبلى بالآمال والخيبات. وفي كتابه الأخير هذا، الصادر عن «دار الشنفري» التونسية في 220 صفحة من الحجم المتوسط، يؤكد فليس أنه «يساريا بدأ، ويساريا عاش، ويساريا يظلّ.. بمعنى الحياة».

كلّما مضيتَ في تقليب صفحات الكتاب تكتشف أكثر أن فليس ظلّ يساريا فعلا ولكنه «يساري على طريقته» إذا جاز أن نطلق عليه، وهو في كل ذلك، يكشف عن شخصية شفّافة صريحة مع نفسها، قاسية عليها أحيانا، استطاعت بنزاهة جليّة أن تكون منصفة وشجاعة في الحكم على الأشياء، بما فيها تجربته الخاصة وتجربة اليساريين جميعا، في أسلوب ليس من السهل على أي يساري أن يقدم عليه، ولا على رفاق الأمس أن يقبلوه.
عن تخلّيه عن التنظيم وما يعنيه من انضباط صارم، يقول فليس إن قراره هذا نبع من «كمّ هائلٍ من التفاصيل الملموسة والمتتالية عرّت في ذهني زيفَ كثير من الادعاءات بالعصمة الثورية والنقاوة الأيديولوجية، فقد حصل ورأيت الكذب والنفاق والانتهازية المقيتة، وعشت خاصة آيات متدنية من الانفصام الصارخ بين الخطاب المعلن والممارسة القائمة على أرض الواقع».

ويضيف الكاتب أنه من «سوء حظ اليسار» أن «أصاب بعضَه فيروس الثقافة السياسية السلطوية التي أرساها الحزب الحاكم والحزب الوحيد المهيمن (…) ثقافة نفي الآخر والاكتفاء الذاتي والامتلاء المطلق بحيازة الحقيقة النهائية والأبوية. وإذا كان هذا الشعور قد ظهرت عوارضه بمناسبة وبغير مناسبة، في علاقة بالخوض في مظاهر الشأن العام، فإنها كانت جليّة ومفضوحة كلّما أفضت النقاشات إلى اختلافات في التقدير والتحليل والاستخلاص، فإن الخارج عن (الصف) معرّض للاتهام بالعمالة والخيانة والتخاذل».

وبعد أن يشير محمد صالح فليس إلى أنه «إذا استثنينا عنصر السريّة التي فرضته علينا الخيارات القمعيّة المتشدّدة التي واجهتنا بها السلطة، فإنّ تبنيَّنا للماركسية اللينينية بشكل دغمائي متشدّد قد أحالنا على لائحة (المستبدّين) بمفهوم ما، وأعاقنا عن التفاعل الجيّد مع متطلبات الواقع» نراه يمضي إلى القول إن «الوعي بمجمل هذه الحقائق التي توصلت إليها (سرد غيرها طبعا) صحبة عدد غير يسير من مناضلي هذا اليسار المناضل ـ بعد أربع مواجهات قمعية متتالية ومكثّفة ـ إلى اتخاذ القرار الشجاع بإيقاف النزيف والقطع مع بلادة القادة والمألوف والتوقف عن سلوك سبيل فرضت الأيام ضرورة مراجعة آلياته ومنطلقاته وتعديل مقوّماته تقييما ونقدا ومراجعة ومن ثمّة جاءت الضرورة القصوى للعودة للانخراط بقوة وفاعليّة صلب المجتمع للإسهام في دعم نسيجه وبسط امتداده الأفقي وتوسيع دائرة إشعاعه وكذلك للتعلّم المتواضع من الطاقات النضالية وحيوية التحاليل الكامنة فيه».

ويشرح فليس أكثر الضرورة التي أملت هذا التوجّه نحو العمل ضمن المجتمع بالقول «لقد فرض علينا انخراطنا في مقولة تغيير السلطة كأساس للتغيّر أن نظل في خندق لعبة النخب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في منطقتنا: لا نغيّر شيئا إلا بتغيير السلطة، وكل شيء يمر عبر معركة السلطة لتغييرها والحال أن المجتمع هو المدعوّ للتغيير من حيث البنى الفكرية وتنامي وعي الحرية لديه وانخراطه في ثقافة المواطنة ومنها كلّها إلى الخروج عن مسلكية الطاعة إزاء (أولي الأمر) ».

ومع أن الكتاب لا يشمل الحديث عن تونس مع الرئيس قيس سعيّد إلا أني رأيت في الفقرة التالية «قرصة أذن» تنطبق تماما على معظم يساريي اليوم في البلاد ممن يقفون مع الدكتاتورية الصاعدة باستمرار ويبرّرون ما لا يبرّر، وذلك حين يقول فليس إن «من ساهم في صناعة آليات الاستبداد أو صمتَ عن وجودها ينسى أن لا أحد في مأمن من شرورها، وأنها لا تطال (الآخرين وحدهم)! وبإمكان الدوائر أن تدور على من صنعوها أنفسهم، وأحيانا بذات الأسلوب والآليات التي اعتمدوها لتصفية خصومهم».

هؤلاء هم من يطلق عليهم اليوم في تونس «اليسار الوظيفي» الذي أعمته الانتهازية والخصومة الأيديولوجية عن إدراك حقيقة وزنه في المجتمع، لكنه مزهوّ بدعوة أحد رموزه إلى زيارة الصين!!

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات