كانوا يتمنون ان أخرج أو تخرج من فمي عندهم وفي أوكارهم عبارات الاعتذار أو الخطأ

كانوا يتمنون ان أخرج أو تخرج من فمي عندهم وفي أوكارهم عبارات الاعتذار أو الخطأ ليبنوا عليها قصّة أخرى فقد ارهقهم وجودي ووجود شخصيات مرموقة ومناضلة في جبهة واحدة مع حركة النهضة لان في ذلك كسر لرواية يريدون حشرها في أذهان الناس مفادها ان الصراع منحصر بين النهضة وسعيّد بل اكثر بين الغنوشي وسعيّد. التنوّع الذي يرونه في جبهة الخلاص وفي مواطنون ضدّ الإنقلاب يزعجهم حدّ الدوار لأنّه ينقل الصراع الى مربّعه الحقيقي اي المواجهة بين الديمقراطية والحداثة السياسية من جهة والاستبداد وتصفية إرث الثورة من جهة أخرى.

امّا بخصوص مواقف الماضي ومواقف الحاضر وان تغيّرت فخيطها الناظم في ذهني وقلبي هو حماية المسار والتجربة الديمقراطية التونسية، ولكن من واجبي تجاه جمهور يقف اليوم وقفة شجاعة دفاعا عن الحرّية انّ أوضّح الآتي:

ليس مهمّا أن تخطأ يوما او فترة في تقدير موقف من قضيّة أو طرف سياسي أو شخص. فعندما تجد نفسك مقاتلا في قلب معارك حامية يرتفع غبارها قد تخطا في تبيّن الأمور بوضوح وتأخذك الحميّة و الحماس وصدق الإيمان بقضيّتك الى المزايدة أحيانا والمبالغة أحيانا والتجنّي كذلك.

ليس مهمّا أن تغيّر موقفا بموقف أو ان تعدّل راي براي و ان تضع نفسك موضع النقد لذاتك قبل ان تكون ناقدا للآخرين. المهمّ ان تكون صادقا مع نفسك في الأولى والثانية في موقفك الأوّل كما في موقفك الثاني وان يكون كليهما وفق قناعة حقيقية بمصلحة الوطن.

ليس عيبا ان تطوّر رايك وتقديرك للموقف الوطني بعد ان ينقشع غبار المعركة وترى الصورة أكثر وضوحا. العيب هو ان تغالي وترفض تطويع موقفك لمتطلبّات المصلحة الوطنية ومصلحة القضيّة السامية والمبدأ والقيمة التي تدافع عنها.

كان واضحا في ذهني انّ النهضة الحاكمة في بداية العملية الانتقالية تعاملت مع تنامي المجاميع الارهابية بتراخي واعتبرت انّه باستطاعتها ادماجها في عمليّة سياسية ديمقراطية تعدّدية وكان ذالك خطا قاتل اضرّ بالعملية الانتقالية وفتح الباب أوّلا للمجموعات الارهابية لتعبث بالعملية السياسية وتوجّهها في اتجاه دمارها وثانيا لتسرّب كلّ القوى المعادية للانتقال الديمقراطي المدعومة اقليميا مجدّدا للمشهد الثوري ومنحها ذرائع لم تتوقّعها لتدمير المسار تفخيخه أمنيًا وسياسيا واعلاميا.

عندها وقبل عشر سنوات من الآن كان لي تقدير سياسي عنوانه البارز هو تواطئ الحكم القائم وقتها وتخاذله في حماية التجربة فدخلت في مواجهة حادّة معه قادتني تدريجيا الى الراديكالية في الموقف والمبالغة في التعبير عنه. تعبيرا بلغ حدّ الخروج من مربّع المساءلة والمسؤولية السياسية الى مربّع توجيه تهم الارهاب الى طرف سياسي وبعض قياداته.

انتهت تلك المرحلة وعرفت البلاد منعرجات سياسية وأمنيًة ودستورية مفصليّة.

جاء المنعرج السياسي تحت عنوان الحوار الوطني وتمكّنت البلاد من خلاله من إحتواء ازمة تفاقمت وصارت تمثّل خطرا كبيرا على استقرار البلاد.

وتمثّل المنعرج الامني في دخول البلاد حربا شاملة على الارهاب انتهت بالانتصار عليه وتحقيق احد أكبر منجزات العشرية الماضية والمتمثل في كسب الحرب على الارهاب وتامين البلاد استراتيجيا من مخاطره واحباط خطَة القوى الاقليمية المعادية للحرّية بتفخيخ الديمقراطية بالإرهاب والاغتيالات.

امّا المنعرج الدستوري فتمثّل في نجاح البلاد والمجلس التأسيسي في صياغة والمصادقة على دستور البلاد دستور توافقي وديمقراطي وتقدّمي بنقاط ضعف اكيدة. هذا المنجز حسم جزاءا كبيرا من الجدل والصراع الذي دار حول قضيّتي الهويّة والحرّيات.

بدأ غبار المعركة مع الترويكا ينقشع تدريجيا والحقائق والمسؤوليات تتضح ودخلنا مرحلة صرنا قادرين ان نرى الأمور بأكثر وضوح وجلاء وكنت أعتقد ان شروط دخول البلاد مرحلة جديدة قوامها البناء الديمقراطي التعدّدي بدأت تتوفّر.

ولكن سرعان ما اكتشفت ان السياقات مختلفة وانّ ماكينة فبركة التطاحن والصراع اعادت فقط انتشارها واّنها في الحقيقة لم تكن لتقبل بنجاح تونس في بناء الأرضية الوطنية المشتركة والشاملة على قاعدة ادارة الاختلاف والتنافس السياسي الديمقراطي.

دخلت الماكينة مباشرة مرحلة الاستهداف والتصفية الدعائية و الاعلامية وتخريب البناء السياسي ووضع البلاد امام معادلة ابتزاز قوامها"لا استقرار بالديمقراطية" ولا "استقرار الّا بشروط الاستبداد" .

فهمت عندها )وكان الامر واضحا) ان استهداف حركة النهضة لم تكن دوافعه حماية المسار او الدفاع عن الحداثة، بل تخريبه لإضعاف واخراج الطرف الأكثر جماهرية من المعادلة فتتفرد المنظومة (الأمنية والسياسية والاعلامية) ببعض الناشطين المدنيين والحقوقيين الديمقراطيين من أمثالي بما يسهّل تهميشهم وعزلهم) وهذا بالضبط ما قام به بن علي بعد ان استفرد بمجموعات حقوقية يسارية ونكّل بها بعد ان غضّت الطرف عن محرقة التسعينات في حقّ الاسلاميين).

انطلاقا من سنة 14 صار واضحا في ذهني أن استهداف حركة النهضة يخفي استهدافا للثورة وللعملية السياسية وانّ القديم يريد تنفيذ خطّته القديمة هذه المرّة للعودة الى الحكم من نافذة تشويه وعى الناس والجمهور واستهداف منهجي لفكرة امكانية بناء المشترك على قاعدة الديمقراطية. بما يتطلّبه ذلك من خلق عدّو دائم وشيطنة جزء مهم من الحركة الديمقراطية وترسيخ "فكرة العدو الداهم" (وهي نفس الفكرة التي استثمرها الانقلاب بعد عشر سنوات فقط بتحويل العدوّ إلى خطر).

كان اوّل قرار اتّخذته حالّا آنذاك هو اعلان انسحابي من "جبهة الانقاذ" ودعوتي للقوى اليسارية والديمقراطية لاتّخاذ نفس القرار.

كان انسحابي عنوانا لقراة جديدة للمرحلة وادراكا منّي بأنّه من اوكد الأولويات هو رفض توظيف الديمقراطيين واليسار في معركة المنظومة المسنودة اقليميا ضدّ الديمقراطية تحت عنوان التصدّي للإسلام السياسي وأخونة المجتمع. كنت اقرا المشهد التونسي بعين وعين أخرى ترقب الوضع في مصر وادركت سريعا ان الامر يسير نحو الهاوية لو لم نتدارك بسرعة.

اوّل عنوان للتدارك كان اعادة تقييم لتقدير الموقف الذي انخرطت فيه خلال سنوات حكم الترويكا وانّ النهضة وان أخطأت بدورها في تقديرها السياسي لمتطلبات حماية المسار الّا انّها على مستوى الوقائع التي بدأت تنقشع منذ تلك الفترة (وتتاكّد اليوم من خلال المسارات القضائية) لم تكن كما وصّفتها حركة تتبنى الارهاب أو تمارسه، بل كانت هي ذاتها متضرّرة منه وإن تسبّب تعاطيها المتراخي مع الظاهرة في بداياتها في ضرر للبلاد ايضا.

وكان العنوان الثاني للتدارك هو محاولة التصدّي لخطط الغرفة القديمة وذلك عبر التركيز على معارضة تعبيراتها السياسية المتحكّمة (نداء تونس) او الصاعدة (الدستوري الحرّ).

وفي النهاية وصلت الى قناعة مفادها ان النهضة هي خصم سياسي احيانا وحليف أحيانا اخرى. هي اليوم حليف مقاومة وهذا أمر ممتاز وقد تكون حليفا سياسيّا في مشروع سياسي وطني واسع على قاعدة بناء البديل الديمقراطي، ولكن هذا موضوع آخر يحتاج الى توفّر شروطه وأولها اسقاط الانقلاب وتوفر شجاعة القيام بالمراجعات من الجميع.

والخلاصة:

انا اليوم اقدّر واحصر هذه المسؤولية في بعدها السياسي وأتعاطى مع الامر بمنطق السياسة وليس بمنطق الإتّهام.

هذه المراجعة التي قمت بها بيني وبين نفسي منذ سنوات وهذا التوضيح الذي ادلي به اليوم في هذا الفضاء الآمن اعتبر انّني مدين بهما لجمهور الشارع الديمقراطي بأكمله الذي وجدته اليوم اصلب مدافع عن الديمقراطية المستهدفة والحداثة السياسية من الانقلاب وهجمته الشعبوية.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات