لمحة عن القاضي المختار اليحياوي

كل من يعرف القاضي المختار اليحياوي كان يناديـــــــــــه باسم ’’المختار’’، والحقيقة ان اسمه الحقيقي المضمن ببطاقة هويته هو ’’المختار الشعبوني’’. وهو يدعى المختار الشعبوني بن محمد البشير بن عبد الله اليحياوي وابن المراة مريم بنت سعيد من مواليد غرة جوان 1952.

ولد المختار اليحياوي بقرية قصر الحدادة وهي قرية تستلهم اسمها من احد اشهر القصور الصحراوية الاثرية القديمة، أي تلك القصور الامازيغية التي تقع في الجنوب الشرقي للبلاد التونسية. وتتبع عمادة قصر الحدادة إداريا معتمدية غمراسن من ولاية تطاوين في الجنوب التونسي.

زاول المختار اليحياوي تعليمه الابتدائي بالعاصمة ثم الثانوي بمعهد ابن شرف، ثم تحصّل على شهادة الباكالوريا آداب بقسنطينة بالجزائر سنة 1972 وعلى الإجازة في الحقوق من كليّة الحقوق والعلوم الاقتصادية بتونس سنة 1976 . ثم انتقل إلى باريس حيث تابع دراسته في مادة القانون الدولي الخاص بجامعة “السربون” .

تحصّل على شهادة الدراسات العليا في القانون وعلى شهادة الكفاءة لمهنة المحاماة التي باشرها مدة ثلاث سنوات أي إلى حدود سنة 1983 تاريخ التحاقه بسلك القضاء. اجتاز مناظرة القضاء سنة 1982 وتم تعيينه قاضيا بالمحكمة الابتدائية بسيدي بوزيد دون أن يباشر العمل في تلك المحكمة، ثم تقدم للمناظرة مرة ثانية سنة 1983 ليعيّــــن بعد ذلك قاضيا بالمحكمة الابتدائية بتونس.

اشتغل قاضيا ثم مساعدا لوكيل الجمهورية بقصر العدالة بتونس ثم قاضيا لمحكمة ناحية مجاز الباب ثم رئيسا لمحكمة ناحية أريانة ثم حاكم تحقيق أول بها. ثم انتقل الى محكمة الاستئناف بتونس ليعيّن مساعدا للوكيل العام بها ثم وكيلا لرئيس المحكمة الابتدائية بتونس حيث ترأس الدائرة الجناحية ثم تراس الدائرة المدنية العاشرة الى ان تم عزله سنة 2001 .

لم تدم مسيرته القضائية سوى 18عاما أي منذ سنة 1983 الى غاية سنة 2001 ، ويقول المختار اليحياوي انه دخل القضاء من باب الصدفة تحت ضغط من والده بعد ان كان يرغب في العمل في مجالات أخرى كانت ستؤمن له حياة افضل. كانت الفترة التي باشر فيها المختار اليحياوي حافلة بالتحركات السياسية والاحتجاجات النقابية والاضطرابات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية.

فقد عاشت البلاد في بدابة ثمانينات القرن الماضي تحركات شعبية واحداثا دامية ومحاكمات سياسية، بين احداث الخبز وتحركات الاتحاد العام التونسي للشغل وتحركات جمعية القضاة الشبان في معركتها ضد النظام البورقيبي قبل ان يقع حلها خلال سنة 1985.

كل هذه الظروف التي عايشها المختار اليحياوي كان لها الأثر الكبير في تكوين وفي بناء شخصية الرجل، ويتجلى ذلك من خلال مواقفه الرافضة في مواجهته للسلطة.

لكن بالرغم من كل ذلك وبالرغم من الشهرة العالمية التي اكتسبها القاضي المختار اليحياوي في مواجهته للنظام، فان اغلب القضاة الذين عايشوه او عملوا معه بقصر العدالة بتونس حين كان وكيلا لرئيس المحكمة الابتدائية يؤكدون أن القاضي اليحياوي لم يكن معروفا في مجال الشأن القضائي العام قبل حادثة 2001، سواء في العمل الجمعياتي المنظم او على صعيد الحراك الاستقلالي.

وقد فوجئ كثيرون منهم عندما رأوا هذا القاضي "المتحفظ" يقف تلك الوقفة الشهيرة أمام نظام المخلوع.

وتؤكد الصحافة الغربية الصادرة في ذلك الوقت هذه النظرة إلى القاضي اليحياوي "المجهول"، فتقدمه جريدة لوموند الفرنسية Monde Le انه كان قاضيا "بدون أي التزام سياسي أو مدني معروف. لكن المقربين من القاضي المختار اليحياوي يقرّون بان مواقف اليحياوي وان لم تكن علنية ضدّ النظام وتدخلاته في القضاء، فقد كانت تتخذ شكل مناوشات مع النظام والبوليس السياسي والمسؤولين القضائيين.

فلم تكن تلك المناوشات علنية تأخذ بعدا إعلاميا في الفضاءات العامة، وانما كانت في شكل ردود فعل داخل مكاتب المسؤولين او في كواليس المحاكم، او عبر الاحكام والمواقف والتصرفات التي لا تخرج إلى العلن كما يقول البعض.

وقد أصبحت قضية المختار اليحياوي جزء من الذاكرة الجماعية للقضاة التونسيين، فكانت ثاني مواجهة مباشرة مع سلطة الاستبداد خلال سنة 2001 تحظى بتغطية إعلامية غير مسبوقة منذ قضية جمعية القضاة الشبان سنة 1985.

اذ سبق لأعضاء المكتب التنفيذي لجمعية القضاة الشبان ان تعرّضوا لنفس الملاحقات بعد خروجهم الى الشارع وتمسكهم باستقلاليتهم، وهي تحركات استفزّت آنذاك الحكم البورقيبي.

لذلك يقول البعض ان بين سنة 1985 وسنة 2001، خلت الساحة القضائية من أي مواجهة تستحق الذكر.

ويذكر حسب ما ورد بالعديد من التقارير الدولية والصحفية ان القاضي المختار اليحياوي كان وجّه رسالة مفتوحة في 6 جويلية 2001 إلى الرئيس السابق، بصفته رئيسا للمجلس الاعلى للقضاء ، مطالبا فيها برفع اليد السياسية عن القضاء التونسي وعدم الزج بالمؤسسة القضائية في الصراعات السياسية.

وقد أكد اليحياوي أنه حاول إرسال الرسالة بشكل طبيعي إلى عنوان رئاسة الجمهورية إلا أنها عادت إليه مع إشارة "بلا عنوان"، فاضطر الى نشر تلك الرسالة على الانترنت لتصبح "مفتوحة" وقد تضمنت الرسالة إشارة الى "الوضع المأساوي" الذي وصل إليه القضاء التونسي خلال تلك الفترة .

وقد ورد بالرسالة ما يلي :

"تونس في 6 جويلية 2001

جناب السيد رئيس الجمهورية التونسية رئيس المجلس الأعلى للقضاء،

أتوجّه إليكم بهذه الرسالة لأعبّر لكم عن سخطي ورفضي للأوضاع المريعة التي آل إليها القضاء التونسي والتي أدّت إلى تجريد السلطة القضائية والقضاة من سلطاتهم الدستورية وتحول دونهم وتحمّل مسؤولياتهم كمؤسسة جمهورية مستقلّة يجب أن تكفل لهم المساهمة في تحديد مستقبل وطنهم والاضطلاع الكامل بدورهم في حماية الحقوق والحريات.

إن القضاة التونسيين مُقهرون في كل مكان على التصريح بأحكام منزّلة لا يمكن أن ينال منها أي وجه من الطعون ولا تعكس القانون إلا كما أريد له أن يُقرأ.

إن القضاة التونسيين يعانون من حصار رهيب لا يبقي أي مجال للعمل المنصف ويعاملون باستعلاء في ظروف من الريبة والتوجّس والوشاية تطولهم وسائل القمع والترهيب بما يسلب إرادتهم ويحول دون التعبير عن حقيقة قناعاتهم، كما تداس كرامتهم يوميّا ويقدّمون للرأي العام بشكل مرعب وبشع من الحيف والبطش حتى كاد يتحوّل مجرّد الانتماء إلى القضاء معرّة أمام كل الشرفاء والمظلومين.

إن القضاء التونسي قد فُرضتْ عليه الوصاية بسيطرة فئة من الانتهازيين المتملّقين الذين نجحوا في بناء قضاء مواز خارج عن الشرعيّة بكل المعايير. استولوا على المجلس الأعلى للقضاء وعلى أغلب المراكز الحساسة في مختلف المحاكم لا يعرفون معنى التجرّد والحياد وتحوّلت الاستقلالية إلى استقالة وتبرّم لدى كل القضاة الحقيقيين المحيّدين والممنوعين من الاضطلاع بدورهم وتحمّل مسؤولياتهم وتفعيل كفاءاتهم في خدمة القضاء والوطن.

إن هذه الفئات التي تتاجر بالولاء لتكريس الخضوع والتبعيّة والمعادية لمنطق التغيير والتطوّر الخلاّق عن طريق الالتباس بنظام الحكم القائم والتي تسعى إلى إشاعة التباس النظام بالدولة بالاستيلاء على كل مؤسساتها إنما تسعى إلى الفتنة وتقود إلى المواجهة وتشكّل التهديد الحقيقي للنظام والأمن والاستقرار.

إن مباشرتنا اليوميّة التي أتاحت لنا الاطلاع على حقيقة أوضاع القضاء تجعلنا نتجاوز واجب التحفّظ في ظروف سُدّت فيها كل قنوات الحوار المتوازن بما لم يبق معه مجال للصمت أمام صرخة الضمير حتى وإن تحوّلت سجوننا لأحسن مكان للشعور بالكرامة والحرية وراحة الضمير.

إن مسؤولياتكم الدستورية تفرض عليكم اتخاذ القرارات اللازمة لرفع الوصاية عن القضاء وعلى كل مؤسسات الدولة على نحو يسمح بإتاحة ممارسة الحريّات الدستورية للجميع لصياغة التغيير الحقيقي الذي يتطلّع إليه شعبنا وتقتضيه مصلحة الوطن.

والسلام

المختار اليحياوي - الوكيل الرئيس بالمحكمة الابتدائية – قصر العدالة - تونس "

كانت هذه الرسالة بمثابة المفاجأة بالنسبة للنظام الذي سارع بجميع الوسائل الى الحصول على تكذيب من صاحبها.

وأمام تمسك المرحوم مختار اليحياوي بموقفه ورفضه التراجع عنه صدر بتاريخ 14 جويلية 2001 قرار عن وزير العدل الأسبق البشير التكاري قاض بإحالته على عدم المباشرة مع إيقاف مرتبه وإحالته على مجلس التأديب.

ثم تم تعيين موعد انعقاد الجلسة التأديبية ليوم 29 ديسمبر 2001 وفيها قرر مجلس التأديب عزل المختار اليحياوي من وظيفته من أجل اخلاله بواجبات المهنة والمس من سمعة القضاء.

فتقدم بتاريخ 26 فيفري 2002 بقضية أمام المحكمة الإدارية طالبا إلغاء قرار العزل المذكور لكن المحكمة لم تنظر فيها لمدة 10 سنوات ولم يصدر فيها الحكم إلا بعد قيام الثورة وتحديدا بتاريخ 23 مارس 2011 وهو حكم يقضي بإلغاء قرار العزل الصادر بتاريخ 29 ديسمبر 2001.

ورغم الغاء قرار العزل فقد رفض القاضي المختار اليحياوي العودة للقضاء ولم يتم تمكينه أو تمكين عائلته من مستحقاته المالية إلى حدود هذا التاريخ وبررت سلطة الاشراف ذلك بكونه قد عاد لممارسة مهنة المحاماة بعد عزله من القضاء .

فاستصدرت أرملته شهادة من الهيئة الوطنية للمحامين مفادها أنه لم يباشر ممارسة المحاماة ولو يوما وأن إعادة إدراجه بجدول المحامين كان يهدف لحمايته لا غير.

أسس المختار اليحياوي صحبة مجموعة من الحقوقيين مركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة، ورغم رفض وزارة الداخلية منحهم الترخيص فقد واصل المركز نشاطه وتم انتخابه رئيسا للمركز.

وواصل المختار اليحياوي نشاطه الحقوقي وشارك في إضراب الجوع بتاريخ 18 أكتوبر 2005الذي خاضه مع جملة من الحقوقيين والسياسيين مطالبين باستقلال القضاء وبحرية التعبير والصحافة وحرية التنظّم الحزبي والجمعياتي وإطلاق سراح المساجين السياسيين كما ساند انتفاضة الحوض المنجمي رغم منعه من حضور المحاكمات.

وفي سنة 2011 تم اختياره كشخصية وطنية لعضوية الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي لكن سرعان ما قدم استقالته منها.

وبتاريخ 21 مارس 2012 تم تعيينه رئيسا للهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية وأنهى مهامه فيها في شهر فيفري 2015 .

توفي المختار اليحياوي في أوج عطائه إثر سكتة قلبية يوم 22 سبتمبر 2015 في منطقة تسكراية بمعتمدية غزالة من ولاية بنزرت عن عمر تجاوز 63 سنة بعد مسيرة قضائية نضالية حقوقية شهد بها العالم.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات