الإقامة الجبرية بين القانون وفقه قضاء المحكمة الإدارية

تعد الإقامة الجبرية إحدى الإجراءات الادارية او العقوبات المقيدة للحرية التي تعتمدها بعض الأنظمة ضد النشطاء السياسيين او ضد الأشخاص الذين يشكلون خطرا على النظام العام، وتسمى الإقامة الجبرية في بعض الأنظمة الحبس او الاحتجاز المنزلي .

وقد عرفت تونس مثل هذه الإجراءات الجبرية في ظل الاستعمار حيث تم وضع العديد من النشطاء والمقاومين في المنافي وتحت أنظمة الحرية المقيدة، كما تعرض الرئيس الحبيب بورقيبة الى هذا الاجراء مباشرة اثر انقلاب السابع من نوفمر حيث تم وضعه تحت الإقامة الجبرية الى ان توفي سنة الفين.

ويتمثل هذا الاجراء الاداري المقيد للحرية في جبر الشخص على عدم مغادرته لمحل سكناه طيلة فترة زمنية محددة ومنعه من التواصل مع العالم الخارجي ومن التنقل، او السفر او الاتصال بأصحابه او بوسائل الاعلام.

والجدير بالذكر ان هذه الإجراءات عادة ما يتخذها الحاكم ضد خصومه السياسيين دون المرور عبر القضاء لأسباب امنية بتعلة خطورة الشخص المعني وتهديده للنظام والامن العامين.

ويتسم هذا الاجراء بطابعه الاستثنائي لكونه يمنح السلطة التنفيذية من حرمان الشخص من حريته رغم غياب حكم قضائي ودون المرور عبر السلطة القضائية.

لك فان قرارات الإقامة الجبرية عادة ما يصاحبها قرارات في المنع من الكتابة او التواصل عبر الهاتف هو عبر التراسل.

وتتخذ هذه الإجراءات في أغلب الأحيان خلال الازمات السياسية او الانقلابات العسكرية.

الأساس القانوني للإقامة الجبرية في تونس :

تستند قرارات الإقامة الجبرية في تونس الى القوانين المنظمة لحالة الطوارئ وأهمها الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 الذي صدر اثر الازمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها تونس خلال تلك الفترة وذلك لمجابهة تحركات الاتحاد العام التونسي للشغل بعد إعلانه شن الاضراب العام في كامل البلاد.

كما صدر خلال تلك الفترة الأمر عدد 49 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ تطبيقا لمقتضيات الفصل 46 في الدستور والذي ورد بفصله الأول أنه ” يمكن اعلان حالة الطوارئ بكامل تراب الجمهورية او ببعضه اما في حالة خطر داهم ناتج عن نيل خطير من النظام العام، وإما في حصول احداث تكتسي بخطورتها صبغة كارثة عامة.

وكذلك الامر عدد 51 و الذي جاء لمنع الجولان والمظاهرات بتونس العاصمة و ضواحيها.

لذلك يمكن القول ان قرارات الإقامة الجبرية تبقى مرتبطة بحالة الطوارئ، اذ لا يمكن للسلطة التنفيذية اتخاذ قررات منع التنقل والحد من حرية الشخص في الحركة الا خلال فترة الطوارئ التي يتخذها رئيس الجمهورية.

وقد نص الفصل 5 من الأمر عدد 50 المؤرخ في 26 جانفي 1978 ان الاقامة الجبرية هي وضع شخص في منطقة ترابية معيّنة و منعه من مغادرتها ولا يقع وضع حدّ لهذا الاجراء إلا بزوال الخطر المتوقع من الشخص أو بإنهاء حالة الطوارئ.

النظام القانوني للإقامة الجبرية :

بالنظر للطابع الاستثنائي التي يمكن ان تمر به البلاد فان السلطة التنفيذية لا يمكنها اللجوء الى اتخاذ قرارات اجراء الاقامة الجبرية إلا للأسباب الأمنية المبينة بالقانون واستنادا لخطورة بعض الاشخاص على النظام العام خلال فترة الطوارئ.

ويشترط في صحة القرار الذي يتخذه وزير الداخلية ان يكون كتابيا وان يتضمن هوية الشخص المشمول به وان يحدد نطاقه الزمني والترابي وأسباب اتخاذه أي ان يكون معللا.

ويجب ان يكون القرار فرديا ولا يصح ان يصدر ضد مجموعة سياسية او عرقية او دينية او سكان منطقة معينة، حتى لا يكون مبنيا على التمييز.

كما يتعين على السلط الادارية اتخاذ كل الاجراءات لضمان معيشة الشخص الموضوع تحت الاقامة الجبرية وعائلاته.

لذلك يبقى هذا الشخص متمتعا بالرعاية الصحية وكل المستلزمات المعيشية.

كما يحق للشخص المعني بقرار الاقامة الجبرية حضور جلسات دعوى الالغاء او إيقاف التنفيذ بصفة شخصية او رفقة محاميه للدفاع عن نفسه أمام المحكمة المختصة أو للاعتراض على القرار صادر ضده.

لذلك يمنع على السلطات منع المعني بقرار الإقامة الجبرية من التنقل وممارسة حقه في التقاضي وحقه في الدفاع عن نفسه وحضور الجلسات .

الطعن في قرارات الإقامة الجبرية:

توصف قرارات الإقامة الجبرية بالقرارات الإدارية، ولكونها كذلك فانها تبقى قابلة للطعن فيها أمام المحكمة الإدارية وفقا للقانون عدد40 لسنة 1972 المؤرّخ في غرة جوان 1972 والمتعلق بالمحكمة الإدارية.

لذلك فإنها تقبل الطعن بإيقاف التنفيذ او بالإلغاء في اطار دعاوى تجاوز السلطة.

ولا يمنع ذلك من اثارة التتبعات الجزائية في حال اتخاذ قرارات الإقامة الجبرية بشكل تعسفي مما يجعل تلك القرارات ترتقي لجريمة حجز شخص دون اذن قانوني وفق احكام المجلة الجزائية.

وبناء على ذلك يمكن القول انه يجوز لكل من صدر ضده قرار في الاقامة الجبرية اللجوء الى المحكمة الادارية لطلب الغائه او توقيف تنفيذه وفق اجراءات دعاوى الالغاء.

كما يسمح له بطلب التعويض من الدولة في حال الغاء القرار لعدم شرعيته.

وبصدور حكم الالغاء واعلام السلطة التنفيذية به يجب على هذه الاخيرة وقف اجراء الإقامة الجبرية فورا اذعانا لحكم القضاء حتى لا تكون ازاء حالة اعتقال تعسفي او حجز شخص دون اذن قانوني

مدى ملاءمة الإقامة الجبرية لأحكام الدستور والمعاهدات الدولية:

يمكن القول ان الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978 لم يعد متلائما والتطور التشريعي التي شهدته البلاد وخاصة مع احكام الدستور التونسي والمعاهدات الدولية، لذلك يتجه الغاؤه او تعديله بما يتيح احترام حقوق الانسان والحريات الفردية وخاصة حرية التنقل.

وتجدر الإشارة ان النص المذكور لاقى عدة انتقادات لكونه لا يوفر اي ضمانات للأشخاص المعنيين بالاقامة الجبرية، ذلك ان المعنيين بذلك الاجراء لا يتلقون أي نسخة كتابية من القرار ولا تعليلا في أسباب اتخاذه.

إضافة الى ذلك يمكن القول ان الحق في التنقل يعد من الحقوق الاساسية ذات العلاقة بحقوق الانسان والحريات الفردية.

وقد تبنت اغلب المعاهدات الدولية التي تعنى بالقانون الانساني والحريات العامة وكذلك اغلب دساتير العالم حق الفرد في التنقل داخل حدود الدولة وخارجها.

فنصت المادة 13 من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ان لكل فرد الحق في التنقل واختيار محل اقامته داخل حدود الدولة ، واكدت انه يحق لكل فرد ان يغادر اي بلد بما في ذلك بلده كما يحق له العودة اليه دون قيد او شرط مخالف للقانون.

وقد تبنى الفصل 12من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية نفس الموقف.

وفي نفس الاطار نص القصل 24 من دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014 الوارد في باب الحقوق والحريات ان الدولة تحمي حق المواطن في اختيار مقر اقامته وفي التنقل داخل الوطن وكذلك في مغادرته.

موقف فقه القضاء التونسي من الإقامة الجبرية:

ذهبت المحكمة الادارية الى ايقاف تتفيد جميع القرارات المتخذة في الإقامة الجبرية لعدم مشروعيتها وعدم دستوريتها.

كما ذهبت المحكمة الى الغاء قرارات الإقامة الجبرية قي اطار قضايا تجاوز السلطة باعتبار ان ذلك الاجراء يعطل او يمنع الفرد من حقه في التنقل وهو اجراء غير قانوني ومخالف للدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها من قبل الحكومة التونسية.

وقد أصدرت المحكمة الإدارية في تونس عدة أحكام تقضي بإيقاف تنفيذ قرارات الإقامة الجبرية المتخذة في حق العديد من المواطنين استنادا لمخالفتها للشرعية ولامتناع وزارة الداخلية تقديم ما يبرر اتخاذها لذلك الاجراء او تقديم ما يفيد خطورة نشاط المعني بقرار الإقامة الجبرية على الامن العام او عدم احترامها للشروط الشكلية لذلك الاجراء والمتمثل في الزامية اعلام المعني بالقرار الكتابي المعلل المتضمن لوضعه تحت الإقامة الجبرية.

لذلك طالب العديد من الحقوقيين المجلس التشريعي والسلطة التنفيذية الى التعجيل بمراجعة النصوص بما يتلاءم واحترام الذات البشرية وتحقيق التوازن بين حالة الطوارئ والظروف الاستثنائية مع الحقوق والحريات الفردية.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات