المؤامرتية أكسجين الشعبوية

القضاء نموذجا الحملة الشعواء ضد القضاء و القضاة من طرف قيس سعيد و مريديه تحيلنا إلى مشهد من مشاهد العلاقة التلازمية بين الشعبوية populisme و المؤامرتية complotisme. حسب الباحث فريديرك غيّوم ديفور Frederick Guillaume Dufour استاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة كيباك بمونتريال فإن للشعبوية ميل غريزي الى اعتماد المؤامرتية كإطار سياسي لتفسير الظواهر الاجتماعية.

إذ انه بتقسيم الناس إلى شعب يصوّر على أنه متجانس و صادق و ذو خلق في مقابل نخبة تسوَّق على أنها انتهازية و فاسدة و فاقدة للأخلاق فإن الشعبوية تروج بذلك إلى نمط في التفكير ذي طابع ارتيابي تجاه تلك النخبة يجعل منها تبدو كجزء من مخطط تآمري كبير مستتر يتعين على الشعب فضحه و التحوّط منه.

و هذا لعمري ما ينطبق على ما تشهده تونس في الفترة الراهنة من هجمة منقطعة النظير على قطاعات نخبوية متعددة على رأسها القضاة و المؤسسات التي تمثلهم.

فنظرية "قضاء البحيري" التي أشار إليها يوما ما قيس سعيّد نفسه، و نظرية القضاء المتواطئ مع الفساد و القضاء المتعاقد مع الإرهاب و ما إلى ذلك من النظريات المؤامرتية (بالمناسبة، أي تشابه أو تقارب في الأسماء هو محض صدفة- خير من ألف ميعاد-) هي كلها من مقومات الخطاب الشعبوي المبشّر بإنجازات عظيمة لا يحول دون تحقيقها سوى تلك المؤامرات الظنيّة الخبيثة.

وأخطر ما في هذه النزعة المؤامرتية هو طعنها في نزاهة القضاء ككل و ليس في نزاهة قضاة بعينهم أونسبة ضئيلة منهم. ما لا يدركه مروجي هذه السردية الخطيرة هو حجم الضرر بعيد الأمد الذي يلحقه هذا الطعن المركز في نزاهة القضاء على العقد الاجتماعي السائد و على هيبة الدولة و على ثقة المواطن تجاه المؤسسات و تجاه العدالة ككل.

تخيل مثلا لو أن مبدأ من قبيل "المتهم بريء (مما يرميه به الإعلام أو الامن أوغيرهم) حتى تثبت إدانته (من طرف القضاء)" يفقد مصداقيته بين الناس و تلتبس مواقع الفاعلين فيه. حتما سيؤول الأمر إلى فوضى اجتماعية عارمة قد تبرؤ في نظر الناس المجرم و تدين البريء و تربك العدالة برمتها.

إضافة إلى ذلك، فإن شيوع فكرة فساد القضاء ككل (بدل فساد قلة قليلة من قضاة بعينهم، وهوما لا ينكره احد) من شأنه أن يشجع السلطة القائمة على استحلال حرمته و الإستهانة بحدوده على اعتبار أنه لن يكون هناك من ضير في مزيد إفساد ما هو فاسد أصلا أو مزيد انتهاك حرمة منتهكة سلفا، بحسب زعم تلك السلطة القائمة أو غيرها.

حريّ بنا جميعا، كمواطنين تونسيين قبل كل شيء، أن نعي يقينا أن معاول الهدم التي تفعل الآن فعلها الشنيع في بنيان القضاء إنما هي بصدد تقويض بنيان الدولة ككل. و رغم أن تلك المعاول المؤامرتية طالت و ستطول نخبا أخرى عدى نخبة القضاء فإن هذه الأخيرة تحتاج أكثر من غيرها إلى هبّة من خارجها للذود عنها و الانتصار لها و النضال لصون مكتسباتها لكونها مكبّلة أكثر من سواها بإكراهات التحفظ و انتظارات الرصانة و الانضباط و المهنية والترفع عن مسالك المستنقعات الإعلامية البذيئة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات