إنه المرشد الأعلى للانقلاب.. اللهم فاشهد

"ليس في أقوالنا اليوم ما هو أكثر سخفا من أن نحاول تحرير الجنس البشري من الفاقة بالوسائل السياسية "، اذ "لم تستطع أية ثورة حتى الآن حل المشكلة الاجتماعية وتحرير الناس من حالة الفقر". كذا استنتجت حنا إرندت التي تعتبر واحدة من أكبر علماء السياسة في القرن العشرين، على ان هذا الاستنتاج الذي توصّلت إليه منذ أكثر من نصف قرن لم يكن وليد أحكام مسبقة أو تنظير زائف، بل كان وليد قراءة دقيقة لما آلت إليه الثورتان الفرنسية والبولشفية، بعد أن أدركت بثاقب نظرها أن فشلهما سببه المراهنة على العامل السياسي في حل المسألة الاجتماعية، وهو ما وجّه ضربة قاصمة في حينها لإحدى أبرز الأفكار التي قامت عليها الماركسية.

وهذا هو الخطأ نفسه الذي يقع فيه اليوم قيس سعيد بمشروعه القائم على ضرورة توفير ما يسميه بالآليات القانونية اللازمة حتى يحقق الشعب ما يريد، فيخرج بذلك من حالة الفقر والجوع التي يتخبط فيها، وتحصل لديه القدرة على تخطّي كل العقبات والعوائق نحو الرخاء والتنمية.

إلا أن مثل هذا الكلام علاوة على بطلانه التاريخي والسياسي يقوم أيضا على فرضيات خاطئة. ذلك أن الشعب في كثير من الأحيان لا يعرف ما يريد. وحتى إن عرف ما يريد فلن يعني ذلك بالضرورة أن الدولة ستريده حتما: فالشعب مثلا لا يجد حرجا في أن تجري عمليات البيع والشراء على قارعة الطريق، بينما تحرص الدولة على أن يكون ذلك من خلال مسالك توزيع منظمة وسوق مركزية. وقد لا يتردد الشعب كذلك في الجنوح إلى مبادلة العملة عبر السوق السوداء، لكن ما يهمّ الدولة هو أن يتمّ ذلك من خلال المؤسسات البنكية. كما أن الشعب لا يلقي بالا في غالب الأوقات إن هو خالف قواعد السياقة في الطرقات، مع أن الدولة تشدّد على احترام إشارات المرور وإجراء الفحص الفني السنوي.

ولنا في تاريخ الدولة الوطنية أمثله معبرة عن أشياء أرادتها الدولة وفرضتها على الشعب، على الرغم من علمها بأنها تخالف إرادته: فمن ذلك "مجلة الأحوال الشخصية" التي سنّتها الدولة في وقت كان هوى الشعب الكريم مع التعدد، بما يؤكّد أنّ إرادة الشعب لا تعني بالضرورة إرادة الدولة، هذا إن لم نقل إن الخيارات الكبرى للدولة غالبا ما تكون على الطرف النقيض مما يريده الشعب. ومن هنا الحديث في كثير من الأحيان عن "إصلاحات موجعة".

وزيادة على ذلك، فإنّ حنا إرندت لمّحت في أكثر من موطن إلى أن مفهوم "الشعب" كما يجري استعماله عند الساسة يستبطن، بوعي منهم أو بغير وعي، نزوعا إلى ممارسة الدكتاتورية، وذلك بالنظر إلى ما يفترضه هذا المفهوم من وجود "إرادة واحدة" لا تتطابق مع الفهم الجديد "للشعب" من حيث هو عبارة عن شرائح اجتماعية وطبقية فئوية متنوعة ومصالح متضاربة، لا مجرّد "كتلة واحدة صماء"..

وههنا لابد أن نبين أمرين:

أولا: أن "الشعب" لا يمكن أن يكون على رأي واحد في مسائل تتعلق مثلا بالخيارات الاقتصادية الكبرى للدولة. وإذا كان هناك من يرى في تقليص دور الدولة السبيل الأمثل لحل الأزمة التي تتخبط فيها، من خلال اعتماد سياسات دعم الاستثمار الأجنبي وخوصصة المؤسسات العمومية ودعم القطاع الخاص، فسيكون هناك من يرى في احتفاظ الدولة بدور أكبر في دعم الاقتصاد وغيره الحل الأمثل.

ثانيا: أن افتقار الشعب إلى سعة الاطلاع والخبرة يحول بينه وبين تحديد الملامح الاقتصادية الكبرى للبلاد. وقد علمتنا الحملات الانتخابية أن أقصى ما يرنو إليه الشعب من المطالب أن يحوز على رخصة لفتح كشك أمام منزله أو على رخصة سيارة أجرة للارتزاق منها، أو أن يصل إلى توظيف ابنه في الإدارة أو اقتناء حاجاته من الدواء.

أما إذا نظرنا إلى مشروع قيس سعيد من جهة أنه يقيّد سحب الثقة من النائب بفشله في تحقيق وعوده، على أساس أن عدم إيفائه بوعوده والتزاماته نحو ناخبيه هو مشكل أخلاقي وليس ماليّا، فالأرجح أن ذلك مؤذن بفتح باب الفساد على مصراعيه: لأن رغبة النائب في الإيفاء بالتزاماته إزاء ناخبيه وفي الاحتفاظ بمنصبه ستضطره، شاء أو أبى، إلى استحداث شبكة من العلاقات الفاسدة يعوّل عليها لتحقيق رغبات من انتخبوه.

ولن يكون بوسع أحد حينئذ أن يسحب من النائب ثقته فيه، إلا متى تبين أنه لم يعد منسجما في الحقيقة مع مشروع قيس سعيد.. ومن ثمة يتحول سحب الثقة إلى أداة عقابية يسلطها هذا الأخير على من يرغب في التخلص منه بذريعة أن عدم استجابته لوعوده نحو الشعب موجب لسحب الوكالة منه. فيُضحي قيس سعيد عندئذ، وقد أحكم قبضته على النظام السياسي والدولة، وجيّره بالكامل لمصالحه الضيقة. وذلك بالنظر إلى أن تقييد مثل هذا المشروع بحل المشكل الاجتماعي لن يجعله قادرا على الاستمرار دون وجود صاحب المشروع نفسه في سدة الحكم، مع ما قد يترتب على ذلك من تأبيد لرئاسته مدى الحياة أو من إحلاله لمرتبة المرشد الأعلى والضامن الأوحد والوحيد للسهر على متابعة تنفيذ مشروعه السياسي.

بل لن يكون من المستغرب إن لزم الأمر أن يَعمد حتى إلى استعمال العنف والإرهاب. فـ"بالرغم من أن السجل الكامل للثورات الماضية" - كما تقول حنا إرندت - يعرض بصورة لا يتطرق إليها الشك بأن كل محاولة لحل المشكلة الاجتماعية بالوسائل السياسية لابد وأن تؤدي إلى الإرهاب، وأن هذا الإرهاب هو الذي يؤدي بالثورات إلى حتفها، فمن المستحيل على المرء تجنب هذه الخطيئة القاتلة حينما تتحطم الثورة على صخرة الأوضاع التي يخلفها الفقر المستشري بين الناس".

لقد شاءت أحكام السياسة أن تجعل من الشعب حَكَما تلجأ إليه الأحزاب حتى يفصل بينها في ما اختلفوا فيه من مشاريع مجتمعية واقتصادية وسياسية، لا أن يتحول هو نفسه إلى حزب كبير يقدم المشاريع والمقترحات، لييستحوذ الرئيس بعد ذلك على موقع الشعب والحكَم.

وعليه، فإن ما توصّلت إليه حنا إرندت من نتائج في كتابها المرجعي عن الثورة، كان من الأجدر بنا أن نتمثله في تجربتنا السياسية ليكون لنا درسا نأخذ منه العبر. ولكن في عصر الغوغاء والدهماء، لم نعد نملك إلا أن نذرف دموع الدم على ما بلغناه من سقوط، وأن نصرخ بكل حرقة: أنّى للمعرفة أن يكون لها معنى، إذا كانت بصيرتنا عمياء، وقلوبنا حاقدة، ومعارفنا صفرا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات