حرب غزة لم تبدأ مع بدء هذه المعركة، ولن تنتهي مع انتهائها…

حرب غزة بمعايير العلوم العسكرية الكلاسيكية هي معركة صغيرة أو اشتباك محدود، ولكنها بمعايير العلوم العسكرية الحديثة هي الحرب. زمان، كانت الحروب الكلاسيكية تُعرف بمدى قدرة طرفٍ أن يفرض على الطرف الآخر الاستسلام، وينتج عن ذلك بالطبع تحقيق أهداف سياسية واضحة لمصلحة الطرف المنتصر مثل توسيع الحدود أو السيطرة على المصادر أو تبديد تهديدٍ خارجيّ.

الحروب الكلاسيكية هي محدودة الزمان والمكان، وتنتهي حالما أقرّ المتحاربون بموازين قوى جديدة. اليوم، ثمة شبه إجماع بأن عصر هذا النوع من الحروب قد انتهى، بمعنى أن المعارك التي تفرض فيها أمة على أخرى الاستسلام (كما كان الحال مع الحرب الأرمنية-الأذربيجانية الأخيرة) هي الاستثناء لا القاعدة.

الحروب ما بعد الحديثة هي حروب على المعنى والوعي والهوية، وهي بذلك لا تنتهي بسكوت المدافع، ولا تُقاس حصرا بالخسائر البشرية ولا بالسيطرة على الجغرافيا والموارد، بل تقاس بتسليم الطرف الأضعف للطرف الأقوى بوعيه وهويته ومصيره، وهي بذلك لا تنتهي على الإطلاق. ذلك أنه ومهما حاول الضعيف أن يسترضي القوي ويثبت إليه «حسن نواياه»، فإن القوي سيبقى يطالبه بالمزيد، وليس أدلّ على ذلك سوى ما فعلته بنا جماعة رام الله في مرحلة ما سُمي زورا وبهتانا «مسيرة السلام»، واستجداء «المجتمع الدولي».

ففي هذه الفترة بالتحديد، أي بعد صعود أبو مازن، تحولت الضفة الغربية من مجموعة المدن التي يفصل بينها مستوطنات، إلى مجموعة من المستوطنات الجائعة والجشعة يتخللها غيتوهات فلسطينية. وبعد أن كان المستوطنون في الانتفاضة الثانية محشورين في مستوطناتهم، أصبح بمقدور ثلاثة مراهقين، من مستوطنة واحدة، إغلاق بوابة مدينة فلسطينية يقطنها مئات الآلاف، كما انتهى الحال بأكثر من مئة وخمسين ألف فلسطيني تحت رحمة العمل الرخيص وغير الماهر في المستوطنات التي أقيمت على قراهم. لقد حاول أبو مازن—عبثا— استجداء مسيرة السلام، ولكن ذلك لم ينتج سوى نبذنا الأبدي إلى هوامش الدولة اليهودية.

هذا هو المعيار الأساسي الذي يجب أن نعتمده في تقييمنا لهذه الجولة من الحرب. حرب غزة لم تبدأ مع بدء هذه المعركة، ولن تنتهي مع انتهائها، أي مع سكوت صوت مدافع العدو وانطفاء وهج صواريخ المقاومة. بل ستنتهي حينما تقرر «غزة» تسليم وعيها وهويتها إلى إسرائيل، وأن تتحول إلى نسخة أخرى لا أكثر من «رام الله». في ذلك الوقت بالتحديد، أي حينما يقرر أهل غزة—لا سمح الله— رفع راية الاستسلام، لن تنتهي مسيرة الإذلال، بل ستبدأ مسيرة نفينا خارج التاريخ.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات