الأستاذ الهادي التيمومي.. لقد جانبت الصواب هذه المرة…

يجمع طلاب العلوم الإنسانية أن الأستاذ الهادي التيمومي قامة علمية فذة في قسم التاريخ. رجل له باع طويل في تثوير مناهج الدراسات التاريخية وتبيئتها خاصة المادية التاريخية التي وظفها لفهم ظاهرة الخماسة والرابعة والثلاثة.

لكن في ظهوره الأخير في قناة التاسعة في الحلقة الثانية مع برهان بسيس أفاض في الحديث عن الشخصية التونسية وكان دقيقا في الكثير من التقييمات والملاحظات..

لكنه جانب الصواب حين أرجع فساد منطق التونسيين وولعهم بالشتائم الجنسية إلى عديد العناصر ورككّز على عنصر سماه المكبوت البربري الأمازيغي.. وساق في مجمل حديثه خبرا دون ذكر مصدره يروي فيه أن الداعية أبي عبد الله الصنعاني الشيعي ممهد الدولة الفاطمية قد صُدم حين عاش مع قبيلة كتامة البربرية بأن أحد رجالها قد عرض عليه زوجته يبيت معها أو ابنه أو ابنته..

لقد جانب الأستاذ التيمومي الصواب في نقاط كثيرة:

- أولها : أن أخبارا كهذه تعد صادمة للرأي العام حتى وإن تعلقت بالماضي… سيما وأن التونسيين ينحدر الكثير منهم من أصول بربرية صريحة وبعضهم مازال يتداول اللغة الأمازيغية مثل الدويرات وشنني في تطاوين وزراوة وتمزرت وتاوجوت في مطماطة وسدويكش وقلالة والعديد من القرى في جربة وسند قفصة، فضلا عن الكثير من القبائل التي تعتز بأصولها الأمازيغية رغم اندثار اللغة من عند أبنائها، فالمقام التلفزي ليس مناسبا لتداول مثل هذه الأخبار، التي قد تتسبب في وصم جهة أو فئة أو مذهب أو ديانة أو إثنية أو قبيلة… وقد رأينا ما حدث مع المرحوم الطالبي حين خاض في مباحث أكاديمية معقدة في تلفزيونات الشوو والباز ونسب المشاهدة..

فالمقام الإعلامي ملغوم ومحفوف بالمنزلقات لأن أكثر متابعي التلفاز من العوام والضاسة والرعاع وأتباع كل ناعق.. وهم يتلقفون هذه الأخبار الغريبة وينشرونها في الآفاق وتصير وصما تحقيريا.

*

أما في المقامات الأكاديمية فالأمور مختلفة تماما إذ يُناقش كل شيء دون قيود إلا قيود الصرامة المنهجية. والحريّة الأكاديمية لا جدال فيها.

- ثانيا : لقد أورد الأستاذ التيمومي الخبر مقطوعا ومرسلا دون ذكر مصدره حتى يتسنى للباحثين التحقق منه والنظر في خلفيات الراوي وخلفيات المؤرخ.

-ثالثا : القول بأن الدعاة العرب صدموا من هذا المنزع البربري مجانب للصواب، لأن الرحالة ابن المجاور (المولود في 601 هجري الموافق ل1204 ميلادي والمتوفى في 690هجري الموافق ل1291 ميلادي) مثلا يورد في كتابه "صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز" المعروف ب "تاريخ المستبصر" أنه في منتصف القرن السابع للهجرة مازال نكاح الرهط قائما في بعض قبائل اليمن. وقد أطلق ابن المجاور على نساء هذه القبائل: نساء "أهل الطاغوت" في تهامة اليمن. ونكاح الرهط معلوم وقد حرمه الإسلام (وفيه قصص كثيرة منها ما وقع في شأن عمرو بن العاص والتنازع في شأنه بين العاص بن وائل السهمي ورهط من قريش)….

هذه ظاهرة منتشرة في اليمن بلاد الداعية الصنعاني الشيعي في القرن السابع للهجرة فما بالك في القرن الرابع الذي أقام فيه أبو عبد الله دعوته في كتامة .. فلا موجب لاستغرابه والحال أن اليمن يحدث فيها ما يحدث…

-رابعا : الأمر لم يكن غريبا على العرب فقد أحصى ابن الكلبي في كتابه "مثالب العرب" وابن حبيب في كتاب "المحبر" أسماء صاحبات الرايات والمخنثين واللاطة وأبناء الزنا في الجاهلية والإسلام ومنهم شخصيات مشهورة وقادة وسادة … يضيق المقام عن ذكرها وقد سماهم الكلبي "من كان يُلعب بهم من العرب" … لذلك اعتبرنا ردّ انتشار الشتائم الجنسية إلى النزوع البربري غير دقيق والحال أن التحرر الجنسي ظل سائدا عند العرب إلى عهود قريبة والشتائم الجنسية في شعر النقائض لا نظير لها، فقد سب جرير نساء بن نمير سبا جنسيا مقذعا ( -18) والأمثلة كثيرة جدا.

خامسا: لا يخفى على الأستاذ التيمومي وهو المؤرخ الثبت ان مثل هذه الأخبار عادة تكون أحادا وغير متواترة ولا يعتد بها في التأريخ خاصة في أخبار الرحالة وأصحاب المسالك والممالك الذين عرف عنهم الميل إلى <التعجيب والإغراب.

وكذلك لا يخفى عن الأستاذ الجليل التشويه المتعمد عند بعض المؤرخين لمذاهب معينة وقبائل معينة وديانات مخصوصة لأسباب ذاتية وأسباب عرقية أحيانا وأسباب سياسية وأسباب مذهبية .. فهذا ابن بطوطة اتهم قبائل صنهاجة الصحراوية (لمتونة ومسوفة وجدالة وتاركا…) بأنّ رجالها لا غيرة لهم على نسائهم وأن نساءهم يتخذن الأصدقاء من الرجال يترددون عليهن في بيوتهن بعلم أزواجهن … والحال أن ابن بطوطة تزوج من كل شعوب الأرض إلاّ صنهاجة الصحراء رفضوا أن يزوجوه لأن المجتمع أمومي والمرأة لا تنتقل للعيش في بيت زوجها، بل زوجها يقيم عندها..

أخيرا .. على الأستاذ التيمومي أن ينتقي أقواله في المقامات التلفزية لأن العامة بالمرصاد ولأن القائمين على الإعلام يبحثون عن مثل هذه الأخبار والقصص لأنها ترفع نسب المشاهدة ..

الأستاذ التمومي مؤرخ له بصمته في تلاميذه وفي الجامعة التونسية ومقامه في الجامعة محفوظا ونحن لا نريد أن يجروه إلى المربع الذي جرّوا إليه المرحوم الطالبي .. رغم أن الأستاذ التيمومي أبعد ما يكون عن هذا المربع …


* يوسف بن موسى : مدرّس لغة وآداب وحضارة عربيّة

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات