عيون الدولة الضيقة

Photo

الزيارات الأخيرة التي أداها رئيس الحكومة المشيشي مؤخر لعدد من المؤسسات التربوية، بعد زيارات أولى بروتوكولية بُهرُجية، كشفت أمرا خطيرا جدا. بل لنقل فضحت هذا الأمر الخطير للغاية. تصوروا أن المسؤول الأول عن البلاد ليس له من عيون ينظر بها إلى حال المؤسسات التربوية وأوضاعها اللوجستية الكارثية ومستوى أداء الفاعلين التربويين فيها ويقظتهم واستعدادهم، إلا عيناه المثبتتان في رأسه هو شخصيا لحما ودما.

لقد أمكن لرئيس الحكومة أن يطلع على حال بضع مدارس لا يزيد عددها على عدد أصابع اليد الواحدة زارها في يوم واحد أو في يومين، فكيف له أن يبني حكما صائبا ودقيقا على حال مآت المدارس في كل مدن وقرى وأرياف البلاد؟ الغائب الأكبر هنا هو مبدأ العقلنة والمأسسة. عقلنة تقييم حالة المدارس في الزمن الحي، من حيث البنية التحتية ومن حيث الاستعداد الفعلي للعودة المدرسية في هذه الظرفية الوبائية الخاصة والخطيرة.

من المفروض أن تجري تفقدات مكثفة قبل انطلاق العودة المدرسية بشهر للوقوف على مدى الاستعداد الفعلي لهذه العودة، وأن ترفع تقارير مهيكلة وفق معايير مضبوطة، تُذيّل بحكم موضوعي على حالة المدارس، وبتوصيات دقيقة عند اللزوم، وأن تجنّد الوزارة بالتنسيق مع كل مصالح الحكومة،ذات العلاقة، كل إمكانيات التدخل الفوري، ليكون الجميع في الموعد بحسب المعايير المضبوطة.

من المرعب حقا أن تعتمد الدولة في مراقبة سير أوضاع مرافقها على الجسد الخاص لرئيس حكومتها وعلى عينيه وأذنيه الخاصين، وليس على عيونها وآذانها المؤسسية المنظبطة بقواعد عمل عقلانية وخطط تقييم وتدخل منظومية ناجعة وفعالة.

فهل نحن أمام مشكل تسيير دواليب الدولة أم أمام وضعية تفقّد مزرعة من أحد أصحاب المزارع والضيعات؟ وهل أن عيون الدولة وآذانها لا تتسع ولا تتكاثر إلا في مراقبة حرية المواطنين والتضييق عليها، ولكنها تختزل في عيني السيد رئيس الحكومة وأذنيه عندما يتعلق الأمر بشأن عام موضوعي وحيوي مثل تقييم أوضاع مؤسسات بعدد وبأهمية المؤسسات التربوية؟!

لننقذ مدارسنا وأبناءنا

الوضعية المادية للمؤسسات التربوية (الحماية بالسياج وبالشبابيك الحديدية، دورات المياه، توفر الماء للتنظيف وللشراب، حالة الأسقف والحماية من مياه الأمطار، تحسين حالة الطّرق المؤدّية إلى المدارس...الخ، ولا نتحدث عن التجهيز لأغراض التعليم....) حالة يرثى لها (ولا نقول لا يرثى لها، كما يقول بعض الجهلة). الحل واحد من ثلاثة:


• من ميزانية الدولة.

• من قروض من البنك الدولي ومساعدات مشروطة من جهات دولية.

• من تدخّلات المجتمع المدني. - ميزانية الدولة (مع الفساد والهدر والضعف الفادح للإنتاج، وتسديد الديون الخارجية وخدمتها) أبعد ما تكون عن تغطية كل احتياجات صيانة المؤسّسات التّربوية في كامل البلاد.

ومع ذلك لا بُدّ من التّرفيع في ميزانية وزارة التربية لتلبية هذه الأغراض ووضع خطة وطنية تتدخل فيها عدة جهات رسمية لدعم البنية التحتية للمدارس، ولو تطلب الأمر مشاركة الجيش الوطني، عبر إمكانياته في الهندسة المدنية، في بعض الحالات. - قروض البنك الدولي والمساعدات الخارجية المشروطة، رغم عدم القدرة على الاستغناء عنها بالكامل في الوقت الحاضر، إلا أنها تُصلِح أمرا وتُفسِد أمورا، وضررها على المدى الاستراتيجي أكبر من نفعها، ولو نفعت لنفعت حقا في بناء مدرسة وطنية متميزة وتعليم ناجع ومتطور…

وهذا موضوع كبير لا يتسع المجال لبسط القول فيه. ومع ذلك، فللضرورة العاجلة أحكام، ولكن إلى متى هذه التبعية المكلفة على حساب السيادة الوطنية والاستقلال الوطني والتميّز الحقيقي للمدرسة التونسية؟! - بقي الجهد الوطني الجماعي : رأسمال وطني نظيف ومجتمع مدني مستقل عن أجندات استعمارية. لا بُدّ من هَبّة جماعية عاجلة لإنقاذ مدارسنا وأبنائنا…

بالموازاة مع ذلك، يجب استمرار العمل والنّضال من أجل وضع أسس مشروع وطني سيادي شامل، ومن أجل حدوث نقلة نوعية في الوعي وظهور نخب جديدة غير ملوثة بڥيروسات التنافي والصّراع الاستئصالي، ومن أجل إصلاح الديمقراطية الفاسدة، والانكباب على تطبيق منوال تنموي ديمقراطي اجتماعي. لكن حتى يتحقّق لنا كل هذا، يجب الإسراع بتقديم يد المساعدة لمدارسنا بروح وطنية منزّهة عن كل حسابات ضيقة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات