ثلاث مهمّات مستحيلة: التّربية والسّياسة والتّحليل النّفسي(فرويد).

Photo

الاستحالة بمعنى الممارسة بيقين.

سأتوقّف هنا قليلا عند التّربية لأستخلص من تشابه بنيوي سيكولوجي تفسيرا لبعض ما يجري في عالم السياسة. التّربية مهمّة مستحيلة لأنها ببساطة إدارة لمناطق الشكّ ووضعيّات اللّايقين. عندما يقرّر النجّار أن يصنع طاولة، فإنّه يصنعها، وبالمقاييس التي أرادها لها بالضّبط. وهو من يختار نوع الخشب الذي يصنعه بها، ولون الصّباغ الذي سيصبغها به. لكنّك لا تصنع إنسانا كما تصنع طاولة. فلا معدنه يعود إليك ولا نوع المعدن متشرِّبٌ لأي صباغ يُصبغ به.

يتسلّم المعلّم في بداية السّنة الدّراسية مجموعة من التّلاميذ، يُسمّون بلغة الشّكل المدرسي الرّسمي قسمًا. يتوجّه إليهم جميعا بنفس الخطاب البيداغوجي (التّربية الفارقيّة حضورها ضعيف في مدارسنا) وينتظر منهم على جذاذة إعداد الدّرس، نفس الأداء في نهايته (الهدف الإجرائي الخاص أو الكفاية المنتظرة) وفي نهاية السّنة الدّراسية ككل: أن يكون التّلميذ في نهاية الحصّة\ السّنة الدّراسية قادرا على القيام بكذا وكذا من الكفايات- التعلّمات. ولكن هذا مستحيل. فمنهم من ينجح ومنهم من لا ينجح، ومنهم ينجح بامتياز ومنهم من ينجح بإسعاف..الخ. يعني لو أردنا قياس مدى تطابق إرادة المعلّم مع إرادة المتعلّم لتحصّلنا في الحالات العادية على كورب دي غوس courbe de Gauss التي تشبه شكل الجرس، لا على خط بياني مائل بخمس وأربعين درجة وفقا للمعادلة x=y.

يقول فيلسوف التربية أوليڥيه ربول Olivier Reboulإنه لمعجزة تربويّة أن تلتقي الإرادتان: إرادة المعلّم وإرادة المتعلّم. ولذلك يتبنّى ربول مقاربة "فلاحيّة" لا "صناعيّة" للتّربية. في المصنع تُضبط سلفا المدخلات والمخرجات ويسيطَر على المسار بتمشّيات وسيطة. أما في الفلاحة، فيزرع الفلّاح البذرة بعد تهيئة الأرض، ويحضنها، ولكنه ليس بمقدوره التدخّل في ما يجري في ظلمة الأرض وحضنها من ميكانيزمات عضوية حيوية، إلا بمقدار بسيط (بالسّماد والأدوية) كما أنه ليس بمقدوره تقرير نوع المناخ الذي سيؤثر على المنتوج: سنة مطيرة أو جافة، حرارة زائدة أم اعتدال، جوائح ممكنة...ولذلك يفرح الفلّاح كثيرا عندما ينجح في نهاية الموسم، لأن نجاحه لم يكن مؤكّدا تماما.

ما يقال عن التّربية يمكن أن يقال عن السّياسة أيضا، مع أن هنالك في الغالب الواقعي فروقا كبرى في نبل الغاية. لكن في حكم العقل العملي الأخلاقي: السياسة تربية أيضا. والتربية سياسة. ولقد سمّى العالم القيرواني ابن الجزّار التّربية سياسة الصّبيان. والسّياسة هي تربية للجمهور، عندما تكون هنالك قيادة قدوة وتكون هنالك قاعدة قانونية أخلاقية يحتكم إليها الجميع.

انظروا الآن عما أسفر الدّرس الدّستوري والدّرس الدّيمقراطي، مع معلّمين مؤسّسين لا نشكّ في معرفتهم ونزاهتهم. دعونا من المعلّمين الأفراد، ولنتكلّم عن آلية الإجماع، وعن قاعدة" لا تجتمع أمّتي على ضلالة". نعم قد تجتمع على خطإ يراد به الصّواب، أو قد تجتمع على أمر به خلل جزئي ما، ولكنها لا تجتمع على ضلالة أبدا. على أيّة حال هذا الدّستور لم تتح له فرصة الاشتغال كمنظومة مكتملة الأركان والعناصر إلى الآن حتى نحكم عليه. ولكنه أثبت كم هو مفيد إلى حد الآن في تجنيبنا كوارث سياسية ذات انعكاسات مجتمعية كبرى.

تلامذة الدّستور والدّيمقراطية، أي ممّن حفظوا جملهما الظاهرة، والمنتفعون به بالأحرى، يتراوحون الآن بين ديمقراطي مخلص خاسر للانتخابات إلى فاشي خطير، مرورا بشعبوي مُربِك وانتهازي مافيوزي، وجماعات على الأعراف، بين جنّة المبادئ الدّستورية الأخلاقيّة ونار الانقلاب عليها، وثلّة من آخري الثوريين الذين يتعلّمون كيفية المزج بين روح الثّورة ولعبة السّياسة.

السًياسة مهمّة مستحيلة إذن. أي يستحيل على أيّ حزب وأي قيادة وأي ائتلاف وأي جبهة وأي تحالف أن يتوفّق حتى ولو سعى إلى ذلك مخلصا، إلى تجسيد واقع حيّ مطابق لصورة الدّستور المثاليّة الحاضرة في أذهان الصّادقين.

فإذا كانت السّياسة، بمعناها العملي الموافق لمعناها العقلي الأخلاقي مهمّة مستحيلة، فما هو الممكن إذن؟ الممكن هو الاجتهاد. أي بذل الوسع في تحقيق المصالح ودرء المفاسد. هذا الاجتهاد الذي هو جهد عقلي ووجداني وبدني مضن، قد يؤدي بعد وقت طويل وتضحيات جسام إلى تحقيق طور متقدّم من غايات العمل السّياسي المخلص والصّادق.

هذه المسافة التي تحدث حتما بين تصوّرات الجمهور وانتظاراته من جهة، والمنجز الواقعي للأحزاب والحكومات من جهة ثانية، هو ما يغذّي كلّ الصّراعات والخيبات والمحاولات المتكرّرة أو بعض مظاهر اليأس والإحباط، التي نشاهدها.

قد لا يساعد الفهم على تسريع عجلة التغيير، ولكنه يساعد على التخلّص من الحزن (سبينوزا)وعلى تملّك جرعات الصّبر اللازمة للثبات على التّواصي بالحق.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات