هل يملك الاسلاميون نظرية في الحكم؟

Photo

المقصود بالإسلاميين في الاصطلاح المعمول به في العالم العربي هم الإخوان المسلمون أو من ينتسبون أو ينسبون إليهم. شعار الإخوان المسلمين هو المصحف والسيف. أي الجمع بين قوة الحجة الدينية والقوة المادية المتمثلة في الجهاد في سبيل الله وإقامة دولة الشريعة. الإخوان المسلمون يقولون إن الإسلام دين ودولة. وهم يستلهمون نموذج الدولة النبوية التي أقيمت في المدينة والتي دامت اثنتي عشرة سنة. في تلك الدولة النبوية لم تكن هنالك نظرية للدولة وإنما تصريف لشؤون المجتمع الإسلامي الناشئ وفق مبادئ عامة، وهي تتلخص في:

- السلطة الدينية للرسول كإمام للأمة موحى إليه بالشرع، وسلطته قائدا للجماعة المدنية وقائدا عسكريا. أي زعامة الرسول الدينية والسياسية للأمة.

- مبدإ الشورى الموصى به في القرآن الكريم: "وشاورهم في الأمر" (آل عمران: 159)، أي الأمر الدنيوي حصرا. لأن الأمر الديني يؤخذ مسلّما من القرآن ومن الرسول (ص).

- منظومة القيم القرآنية: العدل: "وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط" (المائدة: 42). والمساواة (الحديث: "إن اكرمكم عند الله أتقاكم") والأخوة الدينية والتسامح والتعايش مع المسالمين من أهل الأديان الكتابية الأخرى.

كما ظهرت في هذه الدولة الناشئة وظيفتي القضاء والإفتاء، ولكن على نحو بسيط للغاية، أي دون الشكل المؤسّسي المنظم بكثير. وكان الرسول (ص) يقضي لأصحاب الكتاب بما نزل عندهم في التوراة والإنجيل.

ولم تكن دولة الرسول (ص) دولة بالمعنى المعاصر للكلمة، لا المعاصرة التي تخص زمانها، مقارنة بالدول والممالك الرومانية والفارسية واليونانية، ولا بالمعنى الحديث بطبيعة الحال. كانت دولة مفروضة من الواقع الجديد الذي واجه الجماعة الإسلامية الناشئة. ساعد على تشكل نواتها النبوية الطبيعة الزراعية المدينية المستقرة للمدينة.

كانت رسالة محمد (ص) هي تصحيح الديانتين التوحديتين اليهودية والنصرانية وردّهما إلى الحنيفية السمحة ردّا مُحدثا. كما كانت رسالته إتمام مكارم الأخلاق، سواء في تلكما الديانتين أو في أخلاق العرب والأمم المجاورة لها. التوحيد ومكارم الأخلاق هذا هو جوهر الرسالة المحمدية.

ولكن وجود جماعة مؤمنة لأول مرة تقريبا، بعد أصحاب موسى عليه السلام، مجتمعة بشكل شبه نقي مع بعضها، في أرض مستقلة بها، حتم تنظيم شؤون هذه الجماعة وفق العقيدة التوحيدية ومنظومة القيم القرآنية. وهو ما سمح بظهور دولة المدينة، التي طورها من بعد عمر بن الخطاب، باستحداث مؤسسات جديدة مثل نظام الدواوين. ثم تطورت أكثر مع اندماج العنصر الرومي والفارسي في الدولة والأمة والحضارة الإسلامية، وما اقتبسه المسلمون من تجارب الأمم الأخرى المدنية في الحكم. لكن مع ارتفاع السلطة الدينية عن الحاكم التي كانت للرسول وحده بصفته مبلغا عن ربه.

ولذا لم تكن الدولة الإسلامية تاريخيا "إسلامية" خالصة. أي لم تكن أغلب مؤسساتها إبداعا حضاريا إسلاميا خالصا. وإنما كانت هذه المؤسسات ضربا من التقنية الإدارية تؤخذ من التجارب المجاورة كما تؤخذ أشكال العمارة والأثاث ووسائل الحرب وتقنياتها. ولكن الحضارة الإسلامية مثلت بروحها الحاثة على الإبداع فضاء مناسبا للغاية لتفجر الطاقات الإبداعية لأجناس كثيرة من البشر الذين أسلموا أو الذين اندمجوا في المجتمعات الإسلامية زمن قوة المسلمين. ما كان إسلاميا خالصا هو الروح التوحيدية النقية، إذا ما تركنا جانبا الظواهر الغنوصية والتجسيدية التي طبعت خاصة الإرث الإسلامي الفارسي. وما كان إسلاميا هو منظومة القيم ومكارم الأخلاق. أي الكليات القرآنية والأخلاق النبوية التي ثبتت في السيرة ثم في الحديث.

الاستنتاجات التي نخرج بها هي أن رسالة الإسلام رسالة دينية عقدية وقيمية لإصلاح شؤون المؤمنين الدنيوية والدينية، وأن ظهور الدولة في التاريخ الإسلامي أملتها الحاجة العمرانية للجماعة المؤمنة الناشئة ومن تعايش معها من أصحاب الديانات الأخرى. وأنها لم تكن أبدا دولة نموذجية ولا مكتملة بالمعيار المؤسسي في عهد الرسول (ص) ولكنها كانت كافية لحل مشاكل الجماعة في ذلك الحين بتنزيل القيم القرآنية في ذلك الحل أحسن تنزيل.

وهذا لا يصعب قبوله عندما نعلم أن وظيفة الاستخلاف والإعمار في الأرض سيرورة بنائية متواصلة وليست إعادة إنتاج لنماذج جاهزة مكتملة. وآخر استنتاج لهذا الجزء الأول من جوابنا على سؤال نظرية الحكم لدى الإسلاميين، هو أن الدولة الإسلامية في أوج تقدمها وعظمتها لم تكن من صنع العرب المسلمين لوحدهم، بل إن النصيب الأوفر في بنائها ومأسستها كان للأجناس الأخرى من المسلمين ومن غير المسلمين الذين اتّصلوا بالأمة الإسلامية أو اندمجوا فيها، فساعدوها أيما مساعدة على بناء حضارتها، بما جلبوه معهم من تجارب الأمم الأخرى في الحكم وتسيير الشأن العام، وبما تمكّنوا من إضافته بفضل ما وجدوه من مناخ ملائم للإبداع والابتكار والإعمار في العالم الإسلامي، وهذا أيضا مما لا يصعب قبوله من وجدان المسلم في ضوء مبدإ التعارف القرآني.

دون أن نغفل بطبيعة الحال عن التحريفات التي طالت الروح الإسلامي بسبب بعض ضروب المثاقفة والاقتباس عن الأمم الأخرى، مثل الروح الدنيوية المفرطة وخُلق الاستبداد والرغبة في الهيمنة.

لقد توقفنا بشكل مطوّل نسبيا عند هذا الجانب التاريخي في ظهور الدولة الإسلامية وتطورها، لكونها تمثّل الحالة النّموذجية والمرجعية الأولى في ما يمكن أن نسميه "شبه نظرية" une pseudo- théorie للحكم لدى الإسلاميين، ولنبين الأصول الدنيوية للصورة المتخيلة للدولة الإسلامية لدى هؤلاء الإسلاميين، هذه الصورة المشحونة دينيا أو الموشّحة بلون ديني كثيف في مخيال الإسلاميين، وربما حتى في المخيال الجمعي لعموم الشعب الذي يتوجه له الإسلاميون بالدعوة إلى دولتهم الإسلامية.

ولكن هل يدعو الإسلاميون صراحة إلى دولة إسلامية تطبّق فيها الشريعة؟ في السودان والأردن ومصر والباكستان وأفغانستان وحتى في الجزائر، نعم، دعوا ويدعون إلى ذلك بشكل صريح. فماذا عن تونس؟

الحالة الإسلامية التونسية لها نوع من الخصوصية. ماذا يقول الإسلاميون عن أنفسهم؟ يقولون إنهم حزب مدني ذو مرجعية إسلامية. وانتظارات عموم المحافظين من الشعب منهم هي تحكيم شرع الله وتطبيقه عند وصولهم إلى الحكم.

للجواب عن سؤال مشروع حكم الإسلاميين في تونس، يمكننا فحص ثلاث سياقات تظهر فيها مواقف الإسلاميين التونسيين من تطبيق الشريعة:

- أدبياتهم الفكرية.

- أدبياتهم السياسية.

-مواقفهم وممارساتهم السياسية.

لنبدأ بالسباق الأخير. لو تفحصنا منشورات الإسلاميين من بيانات وبلاغات إعلامية ووثائق دعائية انتخابية منذ سنة 2014 إلى اليوم، فلن نعثر بتاتا على ما يفيد دعوتهم لبناء دولة إسلامية. ولكننا سنجد اعتراضا واضحا على ما يمس ما يعتبر لديهم، كما لدى غالبية الشعب، من ثوابت الدين، وهو مسألة قسمة الميراث.

أما مسائل أخرى، تعتبر لديهم أقل أهمية، فإننا نجدهم يتعاملون معها في البرلمان أو خارجه دون أدنى شعور ظاهر بالحرج الديني، مثل مسألة تجارة الخمور. كما أن العلاقة المثلية تعتبر لدى أبرز رموزهم شأنا خاصا لا دخل لأحد فيه ما دام يمارس في الفضاء الحميمي الشخصي.

ولكن إذا عدنا لفترة كتابة الدستور، بين سنتي 2012 و2013، فسنجد استماتة لبعض أعضاء المجلس التأسيسي من الإسلاميين في طلب التنصيص في الدستور على الشريعة مرجعية من مرجعيات نظام الحكم، ومن أبرز المواقف على هذا الصعيد، هو موقف مقرّر الدستور نفسه الإسلامي الأستاذ الحبيب خضر، الذي هدد بالانسحاب من التأسيسي إن لم يتم هذا التنصيص، وهو يعبر عندئذ عن الموقف العام داخل حركة النهضة من المسألة، التي وجدت نفسها محرجة بانتظارات عموم الناخبين لها في مستوى هذه القضية.

وبطبيعة الحال تم التراجع عن هذا المطلب والشرط لإتمام كتابة الدستور، وتمت العودة مرة أخرى لصيغة الفصل الأول من دستور 1956. كما أن قضيتين أخريين شهدتا جدلا كبيرا، هما قضية المساواة بين الرجل والمرأة وقضية حرية الضمير، داخل الدستور، فتم التسليم في الأخير بصيغة المساواة عوضا عن التكامل التي اقترحها الإسلاميون، لرفع الحرج عن الوجدان الديني بخصوص مسألة القوامة ومسألة قسمة الميراث، وتم إحداث نوع من التوازن داخل الفصل السادس من الدستور الذي ينص على حرية الضمير، بالتأكيد أيضا على احترام المقدسات.

أما الأدبيات السياسية قبل الثورة، فكانت تؤكد خاصة على مسألة الحريات. وقبل الإسلاميون بالدخول في ما يعرف بجبهة 18 أكتوبر، مع العلمانيبن واليساريين، دفاعا عن الحريات، في مواجهة نظام بن علي الاستبدادي القمعي. وإحقاقا للحق أن الإسلاميين في تونس قد نجحوا بوضوح في اختبار الحريات العامة لدى مشاركتهم في الحكم، بل أقول إن النهضة هي أكثر الأحزاب التي وصلت للسلطة ضمانا للحريات العامة، مع حزب المؤتمر. ووجودها في السلطة له على الأقل هذه الفائدة الجمة، بغض النظر عن إخفاقاتها في نواحي الحكم الأخرى.

وفي الأدبيات الفكرية السياسية، ومن أبرزها كتابات وكتب الأستاذ راشد الغنوشي زعيم الإسلاميين في تونس، نجد أيضا تأكيدا على الحريات العامة وعلى حقوق الإنسان عامة، ولكننا نجد أيضا صيغة بيداغوجية مضاعفة في التعامل مع مسألة تطبيق الشريعة. وهي مضاعفة لكونها تتوجه لأنصار الحركة الإسلامية بخطاب تبريري لعدم التعجل في المناداة بتطبيق الشريعة، كما أنها تخص طريقة في التعامل المرن مع الرأي العام بخصوص تلك المسألة. وهو ما شرحه بكل وضوح راشد الغنوشي في أواخر كتابه عن الحريات العامة في الدولة الإسلامية بقوله إن الإسلاميين سيعرضون مرة من بعد مرة تطبيق الشريعة على الناس، حتى يأتي الوقت الذي يقتنعون فيه بها، ويصبحون من المطالبين بها ومن الداعين إلى تطبيقها (ص. 347).

وفي الأثناء ماذا نفعل وكيف نحكم حتى يقتنع الناس أو غالبيتهم الساحقة بالشريعة (والآن حتى تسمح الدول المانحة بذلك)؟ في الأثناء نعمل بفتوى صاغها الأستاذ راشد الغنوشي وهي أن نستورد من الغرب تقنيات إدارة الشأن العام مثل العلمانية والديمقراطية والانتخابات والبرلمان الذي لن يكون كمجلس شورى إسلامي مشكّل من إسلاميين فقط، بل قد يوجد فيه كذلك علمانيون ويساريون وغيرهم. حيث يفرّق الأستاذ راشد الغنوشي بين جانبين في التعامل مع المنجز الحضاري الغربي الحديث: جانب الوسائل والإجراءات والتقنيات وجانب المبادئ والقيم الأفكار. نأخذ الأولى أي التقنيات والإجراءات عن الغرب ولا نأخذ منه المبادئ والقيم والأفكار. وهو ما أقرّه عليه مقدم الطبعة الأولى الدكتور محمد سليم العوا.

وهو بهذا يستعيد نفس الموقف الذي اتخذه رواد النهضة العربية من الحضارة الأوروبية أمثال الطهطاوي في رحلته الباريسية التي دوّنها في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز". فهو يقول إنه علينا الأخذ بالعلوم الحِكمية من أوروبا أي التقنيات والإجراءات الإدارية، مثلما فعل ذلك لاحقا الجنرال حسين في المدرسة الحربية برقادة في الجانب التقني العسكري أو خير الدين التونسي في الجانب الإداري، أو مثلما فعل محمد علي باشا في مصر، ولكن لا يجوز أخذ القيم عن الغرب، فلنا قيمنا التي تغنينا عما سواها. وفي الحقيقة هذا المنهج كان قد كرّس أيضا سابقا من المسلمين الذين أخذوا عن الرومان بعض تنظيماتهم الإدارية ومؤسساتهم وأخذوا من الصينيين والهنود والفرس بعض تقنياتهم، ولكنهم تمسكوا في ما عدا ذلك بعلم الكلام بكل فرقه الداخلية.

ولكن ما غاب عن الأستاذ راشد الغنوشي والدكتور سليم العوا أن تلك التقنيات والإجراءات (يعتبر أن الديمقراطية والعلمانية من قبيل التقنيات السياسية تكنولوجيا سياسية) (ص. 83) لم تكن وليدة العقل التقني وحده، بل وليدة العقل الكوني والعقل العملي الأخلاقي المؤسس على مسلمة الحرية وأنها وليدة فلسفة في الإنسان وموقعه في الوجود وقدرته على الفعل في العالم والتاريخ. وليست تحويلا تقنيا لمبدإ الشورى الإسلامي في ورشات ومختبرات ومخابر الفكر الفلسفي السياسي الغربي حيث اشتغل فلاسفة الأنوار والعقد الاجتماعي: سبينوزا وهوبز وروسو ومونتسكيو وفولتير، كما يزعم الأستاذ الغنوشي، وهذا في الحقيقة رأي غريب، أي القول بأن الغرب قد انطلق من الإسلام ليبني الديمقراطية الحديثة.

فهو كالقول بأنها بضاعتنا ردت إلينا. ولكنها خرجت منا مادة خام ورجعت إلينا مصنعة كالفسفاط أو غيرها من المواد الأولية التي نصدرها للغرب ثم نشتريها منه بأثمان مرتفعة بعد أن يعالجها في مختبراته ومصانعه. بل لعل العكس هو الصحيح، وهو أننا نستلم فكرا سياسيا وثمرات لهذا الفكر فنقحمه في منظومتنا الثقافية ونعيد إخراجه على أنه بضاعتنا ردّت إلينا وعلى أنه موجود لدينا في نصوصنا وتراثنا. ولهذا نرى كيف اتّسمت ممارسة الإسلاميين السياسية في تونس الآن بسمة ليبيرالية واضحة. وهذا منهج غريب عن مبادئ حقوق التّأليف الحضاري وعن منهج التعارف القرآني. بقي أن نقد جانب من القيم الغربية الحديثة أو حتى نقدها كلها أمر مشروع تماما ولكنه لا يبرر الزّهد في ما هو كوني وعقلاني وسليم في تلك القيم وإخراجه من مجال العقل العملي السياسي والأخلاقي إلى مجال العقل التقني.

المشكل ليس في الحداثة بل في استجلاب صيغة جاهزة للحداثة والحداثة حداثات، علينا أن نبني حداثتنا بالاعتماد على ممكننا الفكري الحضاري الذاتي وعلى المشترك الكوني الإنساني. علينا أن نبني حداثتنا الأصيلة بتحييث المتعالي على مسطّح ختم النبوّة الذي يعني رفع الوصاية عن عقل الإنسان، هذا العقل الذي هو هبة الله وهديته للبشر كلهم، كما الوحي رسالته ورحمته النازلة عليهم.

والمتأمل في استراتيجية الخطاب في كتاب الحريات العامة في الدولة الإسلامية، يلاحظ أن لدى الأستاذ راشد الغنوشي هاجسا مزدوجا وهاجسا ثالثا يتجاوزهما. الهاجس الأول هو إقناع أبناء الحركة الإسلامية بطرحه في مجال الحريات العامة، وإقناع أتباع المنظومة العلمانية المعتدلة بذلك. وكلا الهاجسين ينصهران في هاجس فك الحصار على الحركة الإسلامية بأقل الأضرار الأدبية والمادية (من ناحية الإخوان) والمادية الأمنية (من ناحية النظام السياسي القائم).

ومن الأمور المقلقة ابستيميا في بناء مفهوم الحرية في هذا الكتاب هو منهجه التوفيقي الإسقاطي، أي التلفيقي في النهاية، حيث لا نجد له إطارا نظريا منسجم العناصر، بل إحالات لمدارس فكرية إسلامية معاصرة متباينة، كالطاهر ابن عاشور (مدرسة مقاصدية)، وحسن الترابي (مدرسة الإسلام الإخواني الحركي البراغماتي)، ومحمد إقبال (مدرسة فلسفة تجديد الفكر الديني على قاعدة مفهوم ختم النبوة) ومالك بن نبي (الإسلام الحضاري)، وعثمان أمين (اليسار الإسلامي).

فشتان مثلا بين فلسفة محمد إقبال التجديدية الأصيلة والعميقة واجتهادات الزعيم الإخواني حسن الترابي أو المفكر الجزائري مالك بن نبي أو مفكر اليسار الإسلامي فتحي عثمان. فإقبال مثلا قد نحت مفهوما يساعد على تدشين قطيعة ابستمولوجية مع منهج النقل والأثر ومع التبعية للنص، وهو مفهوم ختم النبوة. بما هو تمشّ معرفي يرفع الوصاية عن عقل الإنسان. لماذا ختمت النبوة؟ لأنه انفتحت أمام الإنسان إمكانية الاعتماد على نفسه: "إن النبوة لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها". النبوة كالأبوة. المراحل الثلاث: الطفولة العقلية والمراهقة العقلية: (مرحلة النبوة) ثم أخيرا النضج العقلي (ختم النبوة) الذي بفضله يمكننا أن نبني ما نشاء من المفاهيم النظرية والعملية بما في ذلك السياسية منها بكل حرية ومسؤولية عقلية وأخلاقية، مثل مفهوم الديمقراطية.

ولعل هذا الخلط في المرجعيات يعود إلى تدخل عدد كبير من الناشطين الإسلاميين في صياغة أفكار هذا الكتاب، من مداخل الإعداد والمراجعة والنصح والتقويم كما يذكر ذلك الغنوشي نفسه، حيث شكر على أداء مختلف هذه المهمات كل من د. البشير النافع ود. محمود أبو السعود وأحمد المناعي ومحمد النوري ولطفي زيتون وسلوى المهيري والمختار البدري، فضلا عن تقويمات خبراء مركز الوحدة العربية ونصح وتوجيه د. محمد سليم العوّا. وهذا أمر مفهوم من جهة، وغير مفيد من جهة أخرى. فهو مفهوم بحكم الظروف الأمنية والحركية التي حفت بإنتاج هذا العمل وانشغال الشيخ راشد الغنوشي في مرحلة ما بعد السجن بإدارة شؤون الحركة الإسلامية. ولكنه غير مفيد من جهة الخلط الذي يتسبب فيه وضعف التماسك المنهجي والغموض المفهومي والنظري.

لنلخّص الفقرة الأخيرة، نقول: إن الإسلاميين في تونس بقيادة راشد الغنوشي، هذه القيادة التي تستعد الآن لتسليم المشعل لمن سيكون خلفه، ضمن لعبة الصراعات المكبوتة أو المعلنة داخل النهضة، هؤلاء الإسلاميون لهم تعامل يقع في مستويين مع مسألة الشريعة:

- مستوى منظومة التصورات والاعتقادات: الدولة الإسلامية الحقيقية هي دولة تحكمها الشريعة.

- مستوى بنية العقل السياسي الحركي: بعد خوض معركة الحريات، الانخراط اللامشروط في اللعبة السياسية بقواعد الديمقراطية الليبيرلية الأوروبية وحتى الأمريكية (تشترط الإدارة الأمريكية في ما تشترط لإخراج النهضة من تصنيف الإرهابيين، الخروج الكامل من الازدواجية بفصل السياسي عن الدعوي، ومن ازدواجية الخطاب بالخروج من السرّية إلى العلنية، وخوض صراعاتها التنظيمية الداخلية بشكل علني).

مناقشة:

إن الوصف الأخير لعلاقة الإسلاميين بموضوع الشريعة يعتبر نوعا ما تبسيطيا في الحقيقة، لأنّ الممارسة بصدد التأثير على بنية االتصورات والاعتقادات التقليدية والقضم منها والتحول إلى قناعات. ولكن هذا لن يكون كافيا بالمعنيين:

1- وجوب التأصيل النظري الفلسفي للمارسة الديمقراطية.

2- أخذ مسافة نقدية عن نموذج الديمقراطية الغربية الشكلانية المتحالفة مع راس المال والدعاية المضللة والمضحية بالقيم الأصيلة والمتجاهلة للبعد الاجتماعي. وإحقاقا للحق هنالك ميل متعاظم الآن، لا بل ومنذ قبل الثورة بما لا يقل عن عشر سنوات، إلى العودة من النهج الإخواني المشرقي إلى محاولة التموقع ضمن تيار الإصلاح الوطني و"الذاتية التونسية" (بعض كتابات الغنوشي)، ولكن ما يعيق هذا التحول الإيجابي في خطاب الإسلام السياسي التونسي أمران:

- أولا، وعي قواعد الحركة الإسلامية الذي ما زال يتلقى الخطاب الإصلاحي التجديدي بمنطق التكتيك السياسي ذي الخلفية الأمنية والديبلوماسوية.

- ثانيا، المراقبة المضاعفة الذاتية والإخوانية الدولية على طريقة العمل السياسي والأطروحات السياسية للإسلاميين في تونس، وهو أمر خطت النهضة، على ما يبدو خطوات هامة في التحرر منه.

ويبدو أن المآل سيكون بتحكيم فقه المآلات ومقاربة المقاصد الشرعية وتنمية رصيد الحريات العامة بما يفك الحصار على الحريات الفردية للمساهمة في بناء ديمقراطي حديث للدولة التونسية تتحقق فيه مقاصد الشريعة الإسلامية. ولكن هذا مشروع مفتوح وينقصه الكثير من التأصيل الفكري وتشوّش عليه كثيرا الحسابات السياسية التكتيكية.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، سيجرّب الإسلاميون في كل مرة محاولة تمرير هذه التقنية "الفقهية" أو تلك للمساهمة في حل بعض انسدادات المنوال الاقتصادي الحالي، مثل اقتراح قانون الوقف (الذي لاقي معارضة علمانية قوية إبّان حكومة الترويكا) أو قانون صندوق الزكاة (الذي لاقى معارضة هذه المرة في البرلمان، ليس بالضرورة على خلفية معادية للدين، ولكن خاصة لأسباب إيديولوجية سياسية).

ولكنهم مع ذلك أفلحوا في إقحام ما بات يعرف بالمالية الإسلامية في المناهج الدراسية العليا وفي بعض البنوك وشركات التأمين. وذلك بعد ان قبلت عديد البلدان الغربية بالتعامل مع هذه المقاربة المالية "غير الكلاسيكية". أي أن الفتوى جاءت غربيّة هذه المرة. أو أن الغرب هو من أجاز (من الإجازة بالمعنى التراثي الأصيل استعارةً، وبالمعنى السياسي الدولي حقيقةً) التعامل بالمالية الإسلامية بعد الأزمة المالية العالمية الفجائية التي ضربته في العمق جراء نظام المضاربات الافتراضي سنة 2010. ولكن هذه التجربة في تونس، وربما حتى في بلدان إسلامية أخرى مازالت يعوزها الكثير من الضبط "الشرعي" تطبيقيا، بشهادة بعض كبار الفقهاء من جامعة الزيتونة (إلياس دردور، محمد الشتيوي..الخ) رغم توفيرها لقدر من الاطمئنان الوجداني لدى جمهور محافظ عريض.

معنى هذا أن الإسلاميين في تونس قد تخلوا عمليا وربّما إلى الأبد عن مطلب تطبيق الشريعة كحزمة إجراءات مجتمعة، لصالح الاقتراح الجزئي لبعض تطبيقاتها المعاصرة كلما سنحت الفرصة، وبحسب ما تسمح به قواعد اللعبة الديمقراطية الليبيرلية. كما أنهم احتفظوا لأنفسهم بحق "الرقابة الشرعية" على بعض مشاريع القوانين التي تمسّ ما يعتبر لديهم من ثوابت الشرع وتعاليم الإسلام ومقدساته (استنادا إلى ما جاء في ديباجة الدستور وفي الفصلين الأوّل والسادس منه)، مثل مشروع قانون المساواة في قسمة المواريث، مطمئنين إلى مساندة شعبية محافظة واسعة، وهو ما أدى بالفعل إلى حفظ مشروع هذا القانون وهجره.

كل هذا، يمثل على ما يبدو ضمانات لعدم فرض "الشريعة" أو بعض مظاهرها بالقوة، ويبرهن على قدر من المرونة والتكييف لبعض تقاليد المعاملات التي عرفتها المجتمعات الإسلامية قبل ظهور الدولة الحديثة. وهو ما قد يفضي في النهاية إلى تطبيع العلاقة مع التراث ومع الحداثة معا. فليس كل ما في التراث من خبرة عمرانية قد تجاوزه الزمن بالكامل، وليس كل ما في الحداثة آيات نجاح وتقدم ورفاه اجتماعي.

فعلاوة على نظام "المالية الإسلامية"، نجد أن نظام الوقف مثلا نظام تمّ استدماجه في أكثر المجتمعات الغربية تقدما مثل المجتمع الأمريكي والمجتمع البريطاني، وذلك تحت مسمى الفونديْشن fondation وهو ما سمح بتمويل مشاريع اجتماعية وعلمية ضخمة وناجحة جدا، مثل جامعة هارفارد بأمريكا، المصنّفة الأولى عالميا.

وفي المقابل، أنتجت الحداثة إلى جانب أسباب القوة والرّفاه والصحة للإنسانية، بعض أشكال التدمير الذاتي أو الموجّه للآخر مثل التلوث البيئي ومثل أسلحة الدمار الشامل ومثل التفكك الأسري والغربة الروحية.

وهو ما يعني أن "الاحتجاج" أو التحفظ الإسلامي على "التغريب" له مشروعيته وإن جزئيا، ولكن الحلول ليست بالأمر الجاهز البتة، ناهيك أن هذه "الحلول" قد شهدت صياغة امتدت إلى ما يزيد عن سبعة قرون، منذ التجربة النبوية والخلافة الراشدة إلى قول الفقيه المالكي الشاطبي (ت. 590ﻫ/ 1194م) بالمقاصد الشرعية وقول الفقيه الحنبلي نجم الدين الطوفي (ت. 716 ﻫ / 1316م ) بمبدإ "رعاية المصلحة"، ثم استئناف النظر في كل ذلك في القرن العشرين من العالم التونسي الفذ محمد الطاهر ابن عاشور. دون أن ننسى التذكير بأن القانون الفرنسي نفسه المصاغ انطلاقا من شَرطَة أو قانون نابليون بونابرت قد صيغ اعتمادا على مدونة الفقه المالكي، لدى غزوة نابليون لمصر (1798- 1801).

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات