ما مشروعنا الوطني؟ (2/3)

Photo

ثانيا- ملامح المشروع الوطني المنشود:

أوّلا أظنّ أني لست بحاجة للتّذكير بأنّ المشروع الوطني الذي ننتظر صياغته وتنفيذه لا يمكن لشخص واحد أن يدّعي القدرة على تصوّره على الشكل الكامل والملائم والدّقيق مهما كان التزامه المواطني وانهمامه بالشأن العام وتكوينه الثقافي والأكاديمي والسياسي. غاية ما أبغي هو لفت النظر إلى هذه القضية المحورية وتقديم تصورات أولية لها ومداخل كبرى وأساسية إليها.

وعندما نضع أمامنا هذا الموضوع، فإنّ العناصر التي ينصرف إليها الذّهن منهجيا هي الآتية:

- ماذا نعني بالمشروع الوطني؟

- ما هي خصائصه؟

- ما هي أركانه؟

- ما هي محدادته؟

- - ما هي أهدافه؟

- كيف نصوغه؟

- ما هي شروط تنفيذه وكيفياتها؟

سأنطلق في مغامرة الإجابة عن هذه الأسئلة ولا أدري تحديدا في هذه المرحلة من التفكير والكتابة هل سأجد العزم على الإجابة عليها كلها بحد أدنى من التركيز أم أنني سأكتفي ببعضها فقط. كما أنه من الوارد جدا أن أتعامل مع بعض الأسئلة تعاملا مركّبا إدماجيا (لا دمجيا: intégratif et non pas synchrétique).

فلنبدأ:

1- ما معنى المشروع الوطني وما هي خصائصه وأركانه؟

بداية، علينا الانتباه إلى أنّ "المشروع الوطني" معبّرا عنه هكذا بالتعريف، يختلف كثيرا عن أيّ مشروع وطني يذكر مرسلا ونكرة. مثل أن نقول إن بناء سدود جديدة وتطوير السدود القديمة في منطقة الشمال الغربي مشروع وطني. أو إن رقمنة الإدارة بالكامل أو رقمنة الخدمات البلدية وتقديمها للمواطن عن بُعد هو مشروع وطني. حيث إن "الـ"-مشروع الوطني يتّصف بالشّمول. أي إنه يتضمّن كامل أمّهات القضايا والتّحديات (التي يجب رفعها) والرّهانات (التي يعوّل عليها في رفع التحديات) التي تهمّ حاضر الدّولة والمجتمع ومصيرهما القادم. وهذا يعني إضافة صفتين أخريين لهذا المشروع: وهو الراهنية والمستقبلية. القراءة العلمية للواقع وما ينتظره من إصلاحات وتطوير وأحيانا التجاوز، واستشراف ما ستكون عليه الأوضاع في المستقبل وماذا نعدّ لها منذ الآن حتى لا نتفاجأ بها أو يتفاجأ بها أبناؤنا دون الاستعداد للتعامل الجيد معها.

الشّمول والراهنية والاستشراف ثلاث خصائص لمشروعنا الوطني. وسنرى أن خصائص أخرى ستنضاف إليه لاحقا لما نتقدم في بسط المداخل الضرورية لبنائه، مثل الاستقلالية والمبدئية والواقعية .

الآن ما هي الأركان الكبرى للمشروع الوطني؟ هذه الأركان التي يمكن أن تكشف عن هويته الشكلية، قبل الكشف عن مضامينه.

لكل مشروع وطني غايات وأهداف كبرى تهمّ استقلال الدولة وقوّتها وتقدّم المجتمع وإشباع حاجاته الحيوية. ثم برنامج عام لتحقيق تلك الأهداف وبلوغ تلك الغايات في نهاية المطاف. ويتطلب تنفيذ البرنامج رصد إمكانيات وموارد بشرية ومادية. يتحول البرنامج ووسائل تحقيقه الهيكلية والمادية إلى منظومة تشريعية، وتراتيب تنظيمية، ثم عمل ومتابعة وتقييم وتعديل ومساءلة ومحاسبة وإعادة توزيع نواتج البرنامج على هياكل الدولة وقوى المجتمع، في دورة من دورات تحقيق أهداف المشروع الوطني.

يمكن القول إن المشروع الوطني هو فلسفة ورؤية في الحرية والتقدم والقوة والتنمية والعدالة لصالح الدولة والمجتمع، واستراتيجية عملية ذات طبيعة استشرافية لتجسيد تلك الرؤية والطموح. يتحول كل هذا إلى برنامج عمل حكومي ومدني متكامل ومنسجم ومتواصل في الزمن، لا يخضع لتقلبات الظروف السياسية، دون كبت الميول الطبيعية نحو النقد والتنافس المشروع على خدمة الصالح العام. أي أن ذلك المشروع لا يكون ذريعة للاستبداد بالرأي وتطبيق منهج شمولي بدعوى الحفاظ على المصلحة العامة، بل يتم تحقيقه في مناخ ديمقراطي، مع تحصين هذه الديمقراطية من الفساد بكل الوسائل الدستورية والقانونية والنضالية المدنية السلمية والمشروعة. فيكون المشروع الوطني بالضرورة إذن مشروع ديمقراطي غاية ومنهجا.

2- مداخل بناء المشروع الوطني ومحدّداته:

لا يمكن تصوّر مشروع وطني دون الأخذ بعين الاعتبار المعطى الثّقافي والسّياق التّاريخي والفضاء الجغراسياسي، بما هي عوامل تمنح فرصا متاحة وتفرض إكراهات. كلّ هذا يضاف إليه انتظارات الشّعب وطموحات أبنائه، كما تُعاين من الماضي القريب ومن الحاضر على حدّ سواء. غير أن استشراف حاجات الأجيال القادمة والتطورات المرتقبة في المجالات المعرفية والعلمية والتكنولوجية واللوجستية والتنظيمية، لا بدّ أن يكون هو الآخر حاضرا لدى بلورة هذا المشروع الوطني، كما أسلفنا.

أ- المعطى الثقافي:

وهو يتمثل في انتماء الشعب التونسي إلى الثقافة العربية الإسلامية، التي يتّخذ منها هوية حضارية بأساسيها الديني واللغوي: الإسلام والعربيّة. يضاف إلى هذا التقليد التأويلي والرصيد الاجتهادي للدين الإسلامي في هذه الرّبوع التي هي جزء تاريخي من الغرب الإسلامي. ونقصد بذلك المذهب السني الأشعري والمذهب الفقهي المالكي، وهما يتعاضدان، حيث لا يحبّذ الإمام مالك الخوض في تفاصيل الحقائق الدينية الغيبية كما هو شأن صاحب المذهب الكلامي أبي الحسن الأشعري. ويمكن اختزال كل هذا في نمط التدين الذي تبنته وكرّسته الزيتونة خاصّة مع حركة الإصلاح والتّجديد التي حصلت بها على يد أعلام أمثال سالم بوحاجب والطاهر ابن عاشور ومحمد النجار ومحمد النخلي.

إلى جانب هذا الانتماء الثقافي الوطني الأصيل في ملمحه العربي الإسلامي، توجد الأخوة الجغراتاريخية والحضارية مع مواطنينا البربر وبعض جيراننا الأفارقة الذين اندمجوا وانصهروا في هذه الدائرة الحضارية العربية الإسلامية، ويوجد ما تم استصحابه واستبطانه من أساليب عيش وأشكال عمران بشري وأذواق وتعابير فنية، من حضارات سابقة عن الإسلام في إفريقية، وتوجد تقاليد تثاقف عريقة مع ثقافات مجاورة لنا في إفريقيا وفي بلدان شمال المتوسط. ولكن يظل معيار الهضم الحضاري هو منظومة القيم الإسلامية التوحيدية ومكارم الأخلاق القادمة من روافد عدة، عربية وبربرية وغيرها، ضمن مبدإ التعارف القرآني والانتماء إلى الجماعة البشرية والقيم الكونية ككل.

هذه الثقافة العربية الإسلامية بصبغتها الزيتونية المعتدلة والمطوّرة من طرف كوكبة من علماء الزيتونة أبرزهم الشيخ الطاهر ابن عاشور بعد تمهيد من شيخه سالم بوحاجب، إلى رؤية مقاصدية عمرانية وظيفية، والمطعّمة بعناصر ثقافية وأنتروبولوجية متنوعة من المحيط الحيوي للمغرب الإسلامي، جنوبا وشمالا، قديما وحديثا، دون الحياد عن عقيدة التوحيد ودون تهميش للعربية أو إحلالها مرتبة ثانوية، تمثل أحد مرتكزات مشروعنا الوطني. وهذه هي إحدى أهم ميزات هذا المشروع وإحدى أهم حصونه ودفاعاته الاستراتيجية في مواجهة العولمة المذيبة للهويات وللثقافات وفي مواجهة ثمرة من ثمراتها الفاسدة المتمثلة في الجهل المقدّس، الذي يروّج لدين عولمي بلا ثقافة. أي دين يدّعي الاستغناء عن كل شكل من أشكال التنزيل والتأويل في سياقات ثقافية مخصوصة. دين لا فاصل نفسي- ثقافي-اجتماعي فيه، عن التدين، الذي هو الشكل البشري الوحيد الممكن حقا لاعتناق الدّين. وإلا أصبح أصبح أتباع هذا الدين قطيعا منمّطا مسلوب الإرادة.

ب - المعطى الجغراسياسي:

ب. 1- الانتماء المغاربي:

وأبرز ما فيه هو أن تونس جزء لا يتجزأ من المغرب العربي، وهذه بداهة جغرافية وتاريخية، ولكنها تحتاج إلى إعادة بناء بعد التّخريب الذي لحقها بفعل عوامل شتى أبرزها الاستعمار وقبله الصراعات بين المذاهب والزّعامات في إفريقية، كما أنّ روح القطرية الضيقة التي تغلغلت في النفوس بفعل التنميط القانوني والإداري والسياسي والبناء المبتور لمفهوم المواطنة، مغذاة خاصة بنزعات زعامتية جديدة، قد فاقمت حالة التجزئة التي أورثنها إياها الاستعمار.

وأمامنا مع ذلك محاولة، لا تبدو جدية، قام بها حكام الدول المغاربية، ولكنها لم تغادر منطق التمني ومنطقة البدايات الخجولة والمترددة، وربما كانت معبّرة فقط عن إرادة سياسية ظرفية، وبنسب متفاوتة من حاكم مغاربي إلى آخر أو عن رغبة في التوظيف السياسي وخداع المواطنين. ودون نزعة عاطفية، لا أظن أن التونسيين لم يكونوا جادين في المضي قدما في تجسيد فكرة وحدة المغرب العربي. فهي مفيدة لهم بالتأكيد. وهي في الحقيقة مفيدة للجميع.

وينص الدستور التونسي في ديباجته على ضرورة دعم "الوحدة المغاربية" بصفتها خطوة في طريق تحقيق "الوحدة العربية"، وهذه مرجعية هامة يمكن البناء عليها، بتمثل هذه الغاية في كل مناشط الدولة والمجتمع المدني وفي الجامعات ومراكز البحث العلمي..ويمكن البدء من القاعدة سيرا نحو القمة وبأسلوب التركيم القطاعي التدريجي. ولكن الطريق ستكون أقصر وأيسر لو توفّرت الإرادة السياسية بطبيعة الحال. وهذا لا يكون إلا بالمساعدة على حلّ المشاكل العالقة بين الإخوة والأشقاء من بلد مغاربي إلى آخر، كما هو الحال بين الشقيقيتين الجزائر والمغرب، ولو بالتدريج، أو داخل نفس البلد، مثلما هو الحال مع الشقيقة ليبيا.

ب.2- العمق الإفريقي:

لم يكن الوعي بأهمية العمق الإفريقي لتونس وفائدته على اقتصادها وأمنها غائبا عن مؤسسي دولة الاستقلال. فقد كان بورقيبة من بين الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الأفريقيّة التي رأت النّور في 25 ماي 1963 في العاصمة الأثيوبيّة. وقد مثّلت جولة بورقيبة إلى عدد من بلدان القارة سنة 1965 عنوان انفتاح على شؤونها، واحتضنت تونس في عهد الرئيس الراحل مهرجان الشباب الأفريقي، واستضافت سنة 1994 مؤتمر القمّة الأفريقيّة وترأست المنظمة لمدّة عام.

ولكن درجة الالتزام بالقضايا التي تتبناها هذه المنظمة والتي تحولت لاحقا إلى "الاتحاد الإفريقي" ضعفت كثيرا خلال فترة حكم الرئيس بن علي. يظهر ذلك من خلال تغيّبه عن كثير من قممها، واضطراب تمثلية تونس فيها. وقد حاول الدكتور منصف المرزوقي، رئيس تونس في المرحلة التأسيسية بعد الثورة، تدارك هذا الأمر، فشارك في قمم كثيرة للمنظمة واصطحب إليها معه مسؤولين كبار في الدولة وفريقا كبيرا من رجال الأعمال وعمل على فتح أسواق جديدة في التجارة والأعمال لصالح تونس.

ولكن للأسف لم يتحوّل هذا المسعى، رغم حرص الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي على الحضور في قمة أديس أبابا لسنة 2015، إلى سياسة رسمية للدولة التونسية ولم يتحوّل إلى ثابت من ثوابت ديبلوماسيتها الاقتصادية. فتونس، ليست اليوم، للأسف الشديد، ضمن البلدان الأكثر اندماجا في القارة الأفريقيّة. ففي مستوى التّصدير نحو أفريقيا، تحتلّ تونس المرتبة 29 في القارة. وفي مجال الاستثمار تحتلّ المرتبة 28 في ما يخصّ جاذبيّة الاستثمارات الخارجيّة، على الرغم من بيئة قانونيّة تعتبر الأكثر تحفيزا في إفريقيا.

هذا بينما تمثل إفريقيا مركز اهتمام ومحط أنظار قوى كبرى في العالم تبعد عنها آلاف الأميال، فعلاوة على الحضور الفرنسي التقليدي الاقتصادي والأمني والديبلوماسي الذي يمثل امتدادا لحضورها الاستعماري السابق، نجد بلدان عظمى مثل الصين وأمريكا من بين أكبر المتنافسين على جني الأرباح والثروات من هذه القارة البكر الغنية بالمعادن والمنفتحة على عالم الاستثمار الخارجي.

في مطلع سنة 2016، كتب كارلوس لوبيز (Carlos Lopes) الأمين العام المساعد للأمم المتحدة والأمين التنفيذي للجنة الاقتصاديّة لأفريقيا مقالا عن تونس اختار له عنوانا جذّابا وهو: "مستقبل تونس الاقتصادي في أفريقيا"، وبعد أن بيّن كارلوس لوبيز أنّ الطلب المتنامي للمنتوجات المعمليّة ومختلف الخدمات تمثّل رافعة مهمّة لتغيير اقتصاديات القارة، أكّد أنّ "ما نلحظه هو أنّ رافعات التغيير الهيكلي لتونس توجد في أفريقيا" (انظر مجلة ليدرز، 08- 02- 2016).

على تونس اليوم وفي أسرع وقت تصحيح هذا الوضع الخاطئ بالكامل في علاقتها بإفريقيا، مع استغلال موقعها الجغراسياسي الاستراتيجي كإحدى بوابات العبور إليها، لجني أكبر قدر ممكن من المكاسب من الاهتمام الدولي بإفريقيا، ولكن بروح الانتماء والتضامن مع شعوب القارة الإفريقية والانحياز إلى مصالحها في وجه الأطماع الخارجية غير المشروعة. حيث إن انتماء تونس الإفريقي انتماء عضوي وليس مجرّد انتساب براغماتي.

ب. 3- الانتماء العربي الإسلامي:

يوجد مستويان لهذا الانتماء:

- مستوى شعوري ديني وحضاري بالانتماء إلى الأمة الإسلامية وإلى الأمة العربية الإسلامية، وهذا يستوجب أخلاق الأخوة والتضامن، كما يستوجب التعاون والتبادل في حدود المتاح الاتصالي الجغرافي واللوجستي وغيره.

- مستوى جيواستراتيجي: وهنا يجب إيجاد بديل عن هذا الهيكل الميت المسمى "الجامعة العربية" وإعداد خطة استشرافية بديلة للعلاقات مع الدول العربية تحت الأنظمة السياسية الحالية في ظل موجة التطبيع المخزي مع الكيان الصهيوني.

وفي المستويين معا توجد قضية مركزية هي قضية الأمة الأولى وهي القضية الفلسطينية التي تمثل معيار ومحرار علاقاتنا بالدول العربية والإسلامية.

- إلى جانب هذا، يجب النظر عن كثب في التغيرات الإقليمية في الفضاء المتوسطي وفي الخليج العربي، وتحديد موقف ونوعية علاقاتنا مع كل من تركيا وإيران. وهذا أمر ليس معزولا عن مسألة علاقتنا بالجوار الأوروبي وعن موقفنا من التوازنات الإقليمية والدولية الحالية والقابلة للتشكل خلال العقدين القادمين. في كل هذا تكون لدينا معايير موضوعية نطبقها، من بينها المعيار الأخلاقي (الأخوة العربية الإسلامية، والانحياز للقضايا العادلة ولأصحاب الحق) والمعيار القانوني: دستور البلاد، والقانون الدولي والاتفاقيات والمعاهدات التي أمضت عليها الدولة التونسية، وخاصة المصلحة الوطنية.

ب. 4- الجوار الأوروبي:

تاريخ علاقتنا بأوروبا تاريخ ضارب في القدم، حربا وسلما، غزوا (روما لقرطاج، والبرتغال والإسبان ثم الطليان والفرنسيين، للمغرب العربي)، وغزوا مقابلا (حنبعل لروما، طارق بن زياد للأندلس، إذا ما عدنا إلى انتمائنا الجغراتاريخي القديم) وعلاقاتٍ تجارية وديبلوماسية وحركةَ تثاقف كبرى.

فعلاقتنا بأوروبا تاريخيا وحاضرا مطبوعة بنوع من الالتباس الحضاري والسياسي. فهي في الآن نفسه: الجار المتوسطي والضفة المقابلة غير الودودة، والعدو والصديق، والمساعد والمعرقل، والملهمة للأنوار والحرية، والمتعصبة مسيحيا أو علمانيا والمغتصبة لحرية الشعوب وثرواتها. نموذج للديمقراطية، وقلقة إزاء ديمقراطية الثورة. تحتضن المعارضين الهاربين من نظمنا الاستبدادية، ثم تتردد في دعمهم لما يتسلمون حكم البلاد ديمقراطيا. محاربة للإرهاب، ومتواطئة معه. يصدق كل هذا خاصة مع علاقتنا بفرنسا ثم إيطاليا وبلجيكيا وبصفة أقل ربما مع ألمانيا التي تبدو أكثر انسجاما مع أخلاقها المسيحية وفلسفتها الأخلاقية الأنوارية.

المشكلة مع أوروبا مزدوجة: ثقافية ومادية (المنافع الاقتصادية). وتبعا لمنطق حماية المصالح الاقتصادية تأتي القضايا الأمنية. الثقافي مطروح أكثر على الطاولة مع الفرنسيين. ومنه يأتي القيمي والتربوي والتعليمي، وحتى الديني. الألمان في مقابل ذلك، والانجليز، ولكن بشكل مختلف، يركزون أكثر على الاقتصاد، وعلى الأمن.

ونحن الآن في وضع إقليمي جديد يزيد مشكل علاقتنا بأوروبا تعقيدا. وهو النشاط التركي الاقتصادي والأمني في المتوسط.

والسؤال هنا: هو كيف يمكن أخذ كل هذه العوامل والمعطيات بعين الاعتبار في نسج ديبلوماسية ذكية وناجحة وفعالة مع الأوروبيين؟ كيف يمكن تعزيز رصيد استقلالنا وسيادتنا الوطنية إزاءها، مع تمتين الروابط وتوسيع التعاون الاقتصادي والأمني معها ودعمه في نفس الوقت؟ كيف تكون المعطيات الجغراسياسية التي سبق لنا عرضها (الانتماء المغاربي والإفريقي والعربي الإسلامي) عناصر وورقات قوة في إعادة ضبط قواعد التعامل مع الأوروبيين؟ إلى جانب كل هذا يجب استحضار الحسابات الأمريكية، والحسابات الصينية في المنطقة والإقليم وكيفية اللعب على تناقضاتها والاستفادة منها.

3- الالتفات إلى الماضي القريب :

الالتفات إلى هذا الماضي، كما فعلنا في الجزء الاول من هذا المقال، عمل ضروري لبلورة المشروع الوطني الجديد. لماذا؟ لأنّ احتياجات الوطن الكبرى دولة ومجتمعا بمكوناتهما المادية والمعنوية ليست أمرا يتحقق في مرحلة واحدة وبشكل كامل. كان هنالك انشغال في المرحلة السابقة، وأعني بها كل حقبة التأسيس والبناء الوطني منذ الاستقلال إلى حدود 2002 تقريبا، إذا ما شئنا اتخاذ آخر إصلاح تربوي كإحداثية في المشروع الوطني في تلك المرحلة، بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي ومدى وطنيته، كان هنالك انشغال بتحويل رصيد الاستقلال الذي تحصلت عليه البلاد بعد خروج المستعمر الفرنسي إلى أرصدة سيادية وإلى إنجازات تنموية واجتماعية. وقد حققت أقدارا منها. ولكن هذه المهمة الوطنية بقيت ناقصة. ثم تبعثر من مكاسبها الكثير بفعل الفساد والاستبداد والزبونية والتمييز السلبي بين المواطنين وبين الجهات.

ما بقي لنا الآن في هذه الورقة بعد أن شرحنا الحاجة إلى مشروع وطني وعرّفناه وقدّمنا بعض خصائصه وأركانه ومداخله ومحدّداته، هو أن نستكمل مدخلين أو محددين أخيرين في صياغة مضمون المشروع الوطني، وهما مدخل انتظارات الشعب واستحقاقات الثورة، ومدخل استشراف حاجات الأجيال القادمة والتطورات الكونية المحتملة، وأن نضع أهدافا لهذا المشروع الوطني وأن نقترح طريقة لصوغه جماعيا، رغم الحاجة إلى المبادرة والقيادة، وكيف نضمن له شروط التنزيل والتنفيذ الأمثل ونحميه من كل المخاطر والتهديدات التي يمكن أن تحيق به. وهذا ما سيكون مضمون الجزء الثالث من هذا المقال بعونه تعالى.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات