سعيّد في شارع بورقيبة: تشخيص مضموني واتصالي/ رأي تدليلي

خطوة مفاجئة جديدة لكنها في قاموس الرئيس قيّس سعيّد متوقعة، هذا هو الإطار الذي تتنزل زيارة سعيّد عشية اليوم إلى شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، والذي كان نهاية الأسبوع مسرحا لتحرّك احتجاجي لعدد من الشباب والتونسيين، هذا الشارع الذي شهد مؤخرا سلسلة من التحركات الاحتجاجية خلال الأسبوعين الأخيرين والتي بدورها ولدت من رحم الاحتجاجات التي عرفتها عديد المناطق والأحياء الشعبية بعدد من ولايات الجمهورية حيث رفعت شعارات خاصة في علاقة بالوضع الاجتماعي المتدهور والحريات وانسداد الآفاق عموما.

**اتصاليا:

• ملخص الصورة الاتصالية : « الشعب أمامي والشعب ورائي ».

• الرسالة الاتصالية :


- الدلالة : « هذا أنا قيس سعيّد، أنا في صف الشّعب والشّعب في صفي ».

- الوجهة : الرسالة موجهة تحديدا للحكومة وللبرلمان.

• النمط الاتصالي : « اتصال القرب»/ وخصائصه الاتصال الأفقي المرن/ في القاموس السياسي هو اتصال الالتحام بجماهير الشعب والتحرر أو التخفف من البروتوكولات والحواجز.

**من الناحية المضمونية:

يبدو أن الرئيس قيس سعيّد اخترق الصفوف وكسر الحواجز مرة أخرى وفاجأ الجميع بنزوله راجلا في شارع الحبيب بورقيبة الذي كان وما زال نسبيا محاطا بالحواجز والاسلاك الشائكة ليتمشّى على طول الشارع، هذه الزيارة المفاجئة التي تترجم في عمقها رسائل مضمونية ذات دلالة وأثر والتي يمكن تبويبها في (4) أربع اتجاهات رئيسية:

/1/ رسائل للعموم :

- الرئيس لا يخاف أي تهديد ويخرج إلى الشارع ويمشي بين التونسيين، أي أنه لا يخاف الشعب والشعب لا يخافه (في رد على حادثة الطرد المشبوه المسموم/ بمعنى أن الرئيس ينزه أفراد شعبه من محاولة تسميمه أو تهديده).

- الرئيس، وبلا ترتيبات أمنية وبروتوكولات يتحرّك في شوارع البلاد ووسط جماهير الشعب دون حواجز الشرطة والأمن، وهو مرة أخرى في صف الشعب والشباب، يصافحهم ويتحرك معهم جنبا إلى جنب (لا فاصل بيني وبين الشعب/ أنا منهم وإليهم).

/2/ الحكومة/ رسالة حمّالة أوجه :

زيارة الرئيس قيس سعيّد تمثل رسالة حمّالة أوجه للحكومة وخلاصتها الدفع في اتجاه تعديل سياساتها وتحديدا تغيير صبغة الحل الأمني في التعامل مع المواطنين لا سيما عند الاحتجاج إلى جانب رسالة مكررة مفادها ما قاله الرئيس أن «رئاسة الجمهورية ليست صندوق بريد» في إشارة الى نفاذ وفاعلية الرئيس ومؤسسة الرئاسة في كل دواليب الدولة وإدارتها داخليا وخارجيا.

/3/ البرلمان (الأحزاب)/ الرئيس، الفاعل الاول في السلطة :

يبدو أن قيس سعيّد الذي يلاحظ بجلاء أنه يعلم من أين تؤكل الكتف (خلافا لما يتم التسويق له أو يظهر عنه من بعيد)، له دليل تفاعلي خاص إزاء المشهد الشعبي والسياسي والحكومي، الأمر الذي يؤكد بل يثبت أن سعيّد هو اليوم الضامن للاستقرار الشعبي والأمني وأنه الماسك الأول والحقيقي بخيوط السلطة واللعبة السياسية مستفيدا في ذلك بالخصوص من تشرذم الطبقة السياسية وتوسع الهوة بين الفرقاء خاصة تحت قبة البرلمان.

كما أن قيس سعيّد أدرك أن نزوله للشارع ضرورة يجب تكرارها وان هذا النزول الذي سيجذب اليه التحامه بالجماهير من الشرائح الواسعة سيدفن تحت الرماد كل شرارة حزبية تسعى للنيل منه أو ضرب صورته وربما رأى الرئيس سعيّد أن جدوى «قربه من المواطن» والتي كانت سببا في اعتلائه سدة الرئاسة كفيلة دائما بأن تخرجه دائما منتصرا على الأحزاب خاصة في ضوء ما يشن عليه هذه الأيام من حملات إعلامية من بعض الأحزاب الممثلة للحزام السياسي للحكومة وذلك عبر الوسائط الاعلامية والافتراضية بسبب رفضه استقبال الوزراء بقثر قرطاج لأداء اليمين على خلفية اعتراضه على الشخصيات التي تشوبها شبهات فساد أو متعلّقات قضائية.

ولعل حضور الرئيس سعيّد المراد منه أنه في واقع الحال هو ضمانة الأمن والماسك بزمام الامور وأنه الفاعل الأول في السلطة وأنه القادر على تثبيت الهدوء وإعادة الأمور إلى نصابها وأن كلمته مسموعة، و لعل ما فعله سعيّد هو تسجيل لأهداف جديدة في مرمى بقية الأطراف ذات العلاقة التي بقيت دون مواقف ولم تكن لها التفاعلات والمواقف المطلوبة من الأحداث التي تصاعدت بسرعة وفي مقدمتها رئيس الحكومة ورئيس البرلمان وكذلك رؤساء الأحزاب الداعمة للحكومة وغيرها.

خلاصة الرسالةّ «أنا الرئيس قيس سعيّد الفاعل الأول في السلطة رغم محدودية الصلاحيات».

/4/ جماهير الشّعب/ وتحديدا الشباب :

الزيارة التي أداها قيي سعيّد اليوم إلى شارع بورقيبة وحضوره بطريقته المعتادة من ناحية الأسلوب البسيط الأفقي الذي يعتمد تقارب وصولات مكونات الذرّة وجزيئاتها أو ما يعرف ب «L'interaction de proton et neutron» (هو انجذاب قوي لمكونات الذرة لا يكاد أحدهما ينفصل على الآخر/ موقع العنصرين في نواة الذرة)، وهذا النمط من التواصل بين القمة والقاعدة بشكل أفقي يخلق انسجاما والتحاما لا يمكن فكاكه، وهو أسلوب اعتمده ويعتمده أهل السياسة ورجال الإقتصاد وأصحاب الشركات العملاقة عبر العالم، وهم، استنادا إلى دراسات في هذا المنحى، حققوا ويحققون نجاحات ومصالح وغايات، لم يحققوها بخطابات وبروتوكولات وبرامج واستراتيجيات كلامية بل حققوها بخطابات بسيطة وعبارات رمزية من قبيل I have a dream» (لديّ حلم) و «Yes we can»، ولعل سعيّد حذا حذو هؤلاء ليدخل قرطاج وليس في جرابه غير «الشعب يريد..» وبعض من صور جلوسه ووقوفه في مقاهي الشعب البسيط وبضع من نكهة «الكابوسان» الشعبية.

بمعنى أن زيارة اليوم م تخرج من مدار زيارته مؤخرا إلى منطقة المنيهلة وذلك بعد التحركات الاحتجاجية التي قام بها شباب ومراهقون وأطفال حيث تحول الرئيئ بصفة فجئية، كما فعل مع زيارة شارع بورقيبة، تحوّل للحديث مع الشباب وخيّر مخاطبتهم مباشرة وفي ميدانهم وذلك رسالة ذكية منه بأنه لم يتنكّر لهم وأنه سيظل منصتا لمشاغلهم ومستمعا لمشاكلهم.

ولعل هذه الخطوة التي أقدم عليها قيس سعيّد ستزيد في شعبيته التي مازالت في أعلى مستوياتها مقارنة ببقية الأسماء الناشطة والتي تحاول كسب ود التونسيين والتونسيات عبر كل الوسائل المتاحة، ولكن في كل مرة يطيح بهم سعيّد عبر أسلوب "الكابوسان" و"الكوشة" وما شابه، لذلك فهو يواصل الذهاب في طريق الرئيس الذي يشرب قهوته الشعبية في الأحياء الشعبية مع الفئات البسيطة التي كانت خزانه الانتخابي خلال انتخابات 2019 والتي وضعت له في الصندوق (3) ملايين صوت لفائدته.

***رأي تدليلي : ثورة رئيس***

زيارة الرئيس قيس سعيّد اليوم الى شارع بورقيبة وحادثة الكوشة لشراء «الباقات» وخروجه وانحشاره بين الشباب والمواطنين في المنيهلة وصورته وهو يساعد مواطنين محتاجين ببعض المال من القيمة الدنيا، وصوره هو يشارك في عملية شحن مساعدات اجتماعية لسكان ضواحي العاصمة بسبب "كورونا" في الشاحنات التي أعدت لنقلها والآتية مباشرة من ثكنة الأمن الرئاسي بقمرت، كل هذه الصور والخطوات في صالح قيس سعيّد آنيا ومستقبلا، وإن بدت مفاجأة وسابقة بالنسبة للسواد الأعظم من التونسيين والتونسيات.

وطبعا كل فرد فسّر هذه السابقة في تصرفات رجل بحجم الرئيس والتي تأتي تأثرا بميولاته وتحت ضغط قناعاته ولكنها بالنسبة للمتابعين والمحللين لظاهر وبواطن الأمور استنادا إلى المسطرة المعيارية القائمة على مقاس الموضوعية والحيادية فإن ما أقدم عليه الرئيس قيس سعيّد يعتبر انقلابا حقيقيا على كل المسلمات والبروتولات "الاكسسوارية" والبوليتيكية" التي كان يتمثّلها الرئيس في تونس ونسفت كل الهالة المحاطة بالدور العليائي العمودي الذي كان يتقمصه سكان قرطاج من الرؤساء وذويهم.

هذه الصور والخطوات ذات الخلفية الشخصية والسياسية والاتصالية تفسّر أن قيس سعيّد عندما كان يحتسي قهوة "الكابوسان" السريعة مع أفراد الشعب التونسي البسيط ومتقاسما معهم قارورة الماء المعدنية البلاستيكية على طاولات المقاهي الشعبية كان يعي جيدا أن النفاذ لقلب هذا التونسي وتجسير علاقة متينة ملؤها الثقة لا يمر ولا يتم إلا بهذا التقارب وهذا الودّ الأفقي، وقد عرف سعيّد رجل القانون الموصوف بالعفوية والمحسوب من البسطاء وذوي النيات، عرف أن الاطاحة بنظام ديكتاتوري لم يكن عبر انقلاب العسكر ولا باغتيال رموز نظام ولا بأي من الأفعال فقد اقتنع أن إسقاط أعتى أنظمة الاستبداد كان بسبب ظلم شاب فقير يجر عربته.

ولقد عرف سعيّد كيف يكسب ودّ جماهير الشعب من الشباب والكهول والنساء والشيوخ وعرف أن الفوز بالقلوب هو طريق الفوز بالحكم لذلك أطاح بمن امتلكوا جيوش جرارة وآليات وطواقم دعائية واعلامية وتعبوية لا تقهر، طرحهم سريعا ليسقطهم كأوراق الخريف اليابسة فتنتشر هنا وهناك على قارعة الطريق قبل أن تلقى سبيلها الى مواقعها المعلومة، النفايات.

ولقد علم الرئيس قيس سعيّد أن القرب من الناس وخاصة الشباب والمهمشين هو السبيل المثلى للبقاء في القمة والتربع على عرش القلوب لذلك لم يتخل عن أسلوب التضامن والتازر والوقوف إلى جانب المصنفين في الدرك الأسفل اجتماعيا، وهم الشريحة الواسعة في تونس، ولقد كان سعيّد ذكيا في معانقة العاطلين والفقراء ومن زاروه في قرطاج، القصر الذي لم يكن لمثل هؤلاء التونسيين مجرد الحق أو حتى الحلم بالمرور بجوار أسواره.

ولأنه عرف جيّدا من أين تؤكل الكتف لم يفوّت فرصة الظهور مساندا وداعما ومنصتا للناس وهو يخرج عن مهام وصلاحيات الرئيس ليكون إلى جانب رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد متفقدا وإياه بعض متساكني الأحياء الشعبية بعد أن حملت مياه الفياضانات متاعهم بسبب انجراف المسالك والطرقات التي تعزى الى سوء التصرف في انجاز البنية التحتية والأساسية وقد عانق الرئيس من عانق من بسطاء القوم في مثل هذه الزيارات فلم يترفّع ولم يتأفف.

وحتى في سياسته التي تقاسم تنفيذها مع رئيس الحكومة الأسبق إلياس الفخفاخ والذي اختاره ليترأس حكومته الأولى لم يشذّ سعيّد على قاعدة «التونسي البسيط مبجّل والمحتاج مقرّب والمسكين محضون»، سياسة ذكية جمعت القلوب الهافية والنافرة حول الرجل، ولعل القرارات المتخذة على خلفية فيروس كورونا دليل ساطع وحجة نافذة على ما سلف ذكره.

وسواء يفعل سعيّد ذلك عن مبدأ وقناعة راسخة أم اتباع لمنهج فكري وايديولوجي أم يسلكه سياسة فإن الرجل داس فعلا على أصنام المسلمات في علاقة بصورة الرئيس أو منصب الرئيس أو شخص الرئيس.

ولا شك أن هذا النمط الاتصالي البسيط وغير المعقّد هو «السر البوليشينالي» لاستمرار سعيّد على رأس كوكبة المنافسين والمناوئين، يسبقهم كثيرا.. جدا جدا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات