لماذا صرتُ أخشى على تونس من قيس سعيِّد؟

Photo

ثلاثة أسباب تقودني إلى الخشية على تونس دولةً وثورةً وانتقالا ديمقراطيًّا. وأجْمِل هذه الأسباب في:

1- قيس سعيِّد "لا- دستوريّ":

ولا يتعلّق الأمرُ فقط بميله إلى تحويل النظام السياسيّ إلى نظام رئاسويّ بما يناقض الدستور، ولا يتعلّق الأمر أيضا بتعطيله لمؤسَّسة دستوريَّة هي مؤسَّسة "مجلس الأمن القوميّ" بما يعني أنه يميل إلى "واحديَّة التسلّط". وإنّما يتعلّق أيضًا وأساسًا بطبيعة المرجعيَّة والسّجلّ الخطابيّ الّلذيْن بهما يتأوّل الدستور: فالمرجعيّة عسكريَّة والسجلُّ حربيّ (الصواريخ والمنصَّات وأسلوب التهديد والوعيد ...) والصورة التسويقيَّة التواصليَّة هي دائما صورة الحضور في الثكنات وبين العسكر.

مرجعيَّة الصواريخ لا تلائم الدّستور (حتّى على سبيل المجاز) وذلك لأنَّ الدساتير عهودُ تسالُمٍ وعقودُ توافقٍ وطنيّ مواطنيّ، وهي الّتي تجعل من واجب الرئاسة أن تدير كلّ الأزمات الداخليَّة بمرجعيَّة السِّلم وسجلّ التعاون والوئام. قيس سعيّد المؤتمَن على الدّستور "لا - دستوريّ" وإن كان مدرِّس قانون دستوريّ، وذلك لأنَّه اغتال "روح" الدستور وحوَّله إلى نصٍّ شكلانيٍّ إجرائيّ لتبرير الاحتراب الأهليّ.

2 - قيس سعيِّد "لا - مدنيّ":

ولا يتعلَّق الأمر فقط بعشقه للعسكر وخطاب العسكر. وإنَّما يتعلّق أيضا وأساسًا بالمقام التأويلي الّذي اختاره لنفسه حارسًا لوحدة الدَّولة وضامنًا لأمنها: فهذا المقام مرعِبٌ حين يختاره لنفسه "رئيسُ دولةٍ". فقيس سعيِّد عرَّف نفسه بحضور رئيس الحكومة المستقيل والأمين العام للاتّحاد العام التونسيّ للشغل قائلا: "نحن مشاريع شهادة". هذه العبارة المثقلة بوزن لاهوتيّ قصوويّ يمكن أن تصدر عن معارضٍ مثلا.

أمَّا أن تصدر عن "رئيسٍ لدولة" فهذا أمرٌ مرعبٌ لأنَّه يلغي مسافة التمايز بين الإدارة المدنيَّة لشأن عام مشترك وبين خيارٍ عقائديٍّ قصوويّ. قيس سعيِّد ليس إذن سياسيًّا مدنيًّا وإنَّما أتى إلى الدّولة بمشروع شهادة لاهوتيَّة ينبغي أن يسأل عنه. وينبغي أن يصارح الشّعب عن "عدوّ الله" الّذي يرى في محاربتِه شهادة.

3 - قيس سعيِّد " لا - شعبيّ":

وذلك لا بمعنى أنَّه لا يؤمن بكيان اسمه "الشعب" فقط. وإنَّما أيضًا وأساسًا بمعنى أنَّ تصوَّرَه للشعب تصوُّرٌ مغلوط ومخاتل. فالشعب صار عنده - في إطار صراع الشرعيَّات وفي سياق اللَّغو اللاَّعلميّ حول الفرق بين الشرعيَّة والمشروعيَّة - صار الشعب تلك "الأغلبيَّة المسحوقة" الّتي يتحدَّث عنها كلّما تصادم مع "الأغلبيَّة التمثيليَّة".

الشعبُ مفهومٌ كيفيٌّ، وهو وإن عبَّر من حيث "المعنى" عن وحدةِ كيانٍ فإنَّه من جهة "الما - صدق" لا يصدق على أحد أو على مجموعة مهما كان عددها كبيرًا. ولمَّا كان "الشعبُ" كيفيَّةَ وجودٍ لا كميَّة وجودٍ وكان كيانًا لا متجانسا من حيث الأوضاع والخيارات والثقافة والرؤى والتقييمات، فإنَّه لا معنى ممكن للشعب سياسيًّا إلاَّ مفهوم "الإرادة العامَّة" الّتي ترجّحها كمِّيًّا عمليَّة الانتخاب من حيث هي سلوك ديمقراطيّ...

ومهما كانت الأغلبيَّة وازنة كميًّا فهي ليست الشعب، وإنَّما هي معبِّرة عن إرادة عامَّة (وقد تتغيَّر الإرادة العامَّة من انتخابات إلى أخرى دون تغيًّر الشَّعب).

هذا المعنى السياسيّ للشعب بما هو "إرادة عامَّة" وصاحب "السيادة" وأساس "مشروعيَّة" السَّلطة هو الّذي يجعل وجود "المعارضة" ممكنًا ومشروعا. بل هو الّذي يجعل أيَّ مواطن حرًّا في فكره ورأيه حتَّى ولو تعلَّق الأمر بشرعيَّة الرَّئيس نفسه. وهذا المعنى ليس حاضرا مطلقا في خطاب وسلوك قيس سعيِّد.

والغريب في الأمر أنَّ مفهوم الشعب الّذي يريد قيس سعيِّد تذريره في مجالسيَّة هرميَّة إنَّما هو في نهاية المطاف مفهوم دون "المدنيَّة": بمعنى أنَّه ينتهي إلى كيانات ما قبل مدنيَّة وما دون الدَّولة مثل العائلة والعشيرة والقبيلة والطائفة. وإذا كان قيس سعيِّد يرى ضرورة انحلال الأحزاب فهذا سيؤدّي حتما إلى إلغاء النقابات والمنظمات والجمعيَّات. أي إلى إلغاء "المجتمع المدنيّ" باسم مفهوم مغلوط للشعب. وهذا ما يفسِّر الحلّ القبليّ الّذي اختاره قيس سعيّد لليبيا: قبائل تكتب دستورًا. ما الّذي يمنع إذن أن تكتبه الطوائف مثلا؟

من خلال هذه الملاحظات الثلاث يمكن القول أن هذه التعريفات بالسَّلب (لا- دستوريّ / لا مدنيّ / لا شعبيّ) كافية لوحدها أن تجعل الواحد منَّا يخشى على تونس. والأكثر رعبًا في تقديري هو تعريف قيس سعيِّد بالإيجاب. وأرجو ألاَّ يجد رئيس الدَّولة سبيلا إلى هذا "الإيجاب" لأنّ ذلك مؤذن بالخراب لا داخل تونس فقط وإنَّما داخل المغرب العربيّ برمَّته: أرجو ألاَّ نجد قبائل وطوائف بمنصَّات إطلاق صواريخ، ولا دساتير ولا مدنيَّة ولا شعوب.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات