عندما يتحول تقييم الامتحانات ضربا من " التقطيع والترييش "

Photo

أثار موضوع الإنشاء للسنة التاسعة أساسيا دينامكية كبيرة، أدلت فيه كل الأطراف بدلوها، وذلك طبعا امر محمود إذا كانت تلك الآراء على وعي بأنها تتحدث في أمر " بيداغوجي " لا يحتمل التقطيع والترييش، لكن للأسف فإن ذانك المنهج الأخير هو الذي اتخذه الجميع سبيلا لبلورة رأي في الموضوع.

تباينت المواقف الرافضة للموضوع حسب دوافع كل شريحة، فهذه مصابة بشوفينية الموظفين والسكتارية والنقابوية وحماسات الدفاع عن القطاع العام، وتلك تريد ان تسجل هدفا سياسيا في سلة الحزب المبشر بالحرب على الفساد وثالثة تدافع عن منظوريها باعتباره موضوعا صعبا وليس في متناول السنة التاسعة.. الخ.

أما المدافعون عن الموضوع فأغلبهم لهم ميولات حزبية أو أولئك الذين يرفعون شعار انفتاح المدرسة على المحيط في غير مقامه و لا أوانه.

عموما فإن الجميع يتفقون على أمر واحد، وهو أنهم " يقطعوا ويريشوا في الموضوع " دون أي قراءة بيداغوجية ومعرفية وفكرية. لكن السؤال الذي يهمنا هنا: لماذا أثار ذلك الموضوع تلك الضجة؟ وهل يستحق الموضوع أن يثار فيه كل ذلك " التقطيع و الترييش " ؟؟

الإجابة عن السؤال الثاني بلا، لا يستحق الموضوع كل ذلك اللغط، و لكنه يستحق من أهل البيداغوجيا " تقطيع و ترييش شعوراتهم" .

وبالتوسع في ذلك فإننا نجيب عن السؤال الأول: لماذا اثار الموضوع كل تلك الضجة؟ في تونس ما بعد بن علي، لم يعد خافيا على أحد أنه كلما وجدت الأصوات تتعالى وتتنابح ولا تترك لفظا في المعجم لا تستعمله لكي لا تقول شيئا في الأخير، إلا و كان الموضوع سياسيا. تماما كما تعرف الجيف بالغربان المحلقة فوقها، تتفطن في تونس أن جلبة الأسواق تستيقظ كلما اشتمت رائحة السياسة.

هل ذلك يعني أن الموضوع سياسي؟

قطعا الموضوع ليس سياسيا بمعناه المباشر، لكن الأكيد أن الموضوع وضعه عقل سياسي، أو قاد إليه عقل يقوده المنطق السياسي، فكل شيء في تونس تسرب إليه عفن السياسة وامتزج به وتعفن. لكن من أخطر أنواع ذلك التعفن هو تسرب اسهال السياسة للبيداغوجي والفكري.

دعوني الآن أسق لكم الحجج البيداغوجية التي جعلتني أعتبر ان الموضوع بني بعقل سياسي لا بيداغوجي. طبعا كلنا نعرف ان المواضيع في السنة التاسعة تقتضي وضعية حجاجية، إلا أنها غائبة في هذا الموضوع، وما اعتبره أصحابه وضعية حجاجية هو مجرد تلفيق لمواقف عامية خالية من كل منطق وترابط. وطرح سؤال بسيط يمكنه أن يعري ذلك: مالذي جعل الاخ الأكبر يبرّر تقاعس الموظفين؟

طبعا لا شيء، والأمر أفدح من ذلك عندما نعلم انه متضرر لأنه لم يقض حاجته وهو المتضرر من ذلك التقاعس والاهمال.

لا يستحق المرء ذكاء وقادا لكي يفهم ان الموقف مسقط إسقاطا ولا وجاهة له في سياق الحجاج. علما وأننا لا نتحدث عن حجاج، الا إذا كان هناك جدل بين فكرتين أو أكثر، شرط أن تكون تلك الأفكار لها شروط عميقة تدعمها وتجعلها ماثلة في العقول والواقع، بغض النظر عن مدى متانتها وتبنينا لها.

و لم يكتف طرح الموضوع بالاسقاط الاول بل اضاف ثانيا، في قسم " المطلوب " ، عندما طلب إلى المتعلم ان يركز على الحلول . ذلك التلميذ الذي وجد نفسه يبحث عن حلول لوضعية هلامية لا وجود لها في سيرورة بناء الموضوع، كما انه وجد نفسه يبحث عن حجج للأخ الاكبر، لا يمكن ان تكون إلا حجج إنسان معتوه لا يستخرج وثيقته فيثني على الموظفين المتسببين في ذلك التعطيل ويبرر تقصيرهم.

وبذلك تم إخراج الصوت المدافع على الموظف صوتا اخرق معتوها يدلي بحجج ضد المنطق والقيم بل ضد مصلحته المباشرة. وكل ذلك من اجل أن ياتي الموقف الضديد مجلجلا قويا مقنعا، وهو الدفاع عن الاتقان في العمل، ونفوز بذلك، بثلاث خلاصات واضحة:

المواطن أخرق والموظف فاسد والدولة / الحكومة هي الضحية، وعليها ان تصنع أصواتا يسندونها ويدافعون عليها في وضعية حجاجية هلامية لا وجود لها. بل التلميذ (المسكين) هو من أخذ على عاتقه صنعها. وسبب غياب الوضعية الحجاجية هو المنطق السياسي الذي ابتنى الموضوع، لأنه كان يمكن ان يكون الحجاج قائما لو وجد الاخوان ظروفا مزرية في الإدارة (اكتظاظ، ضيق الفضاء، ضجيج، الة طباعة معطبة، حرارة، روائح، أوساخ، غياب رقابة).

وبناء على تلك الظروف تبنى الأخ موقفه الانفعالي ذاك وتفهم غياب الموظف، فتتمتن الوضعية الحجاجية وتكون الفكرة الضديدة مسنودة بمنطق ما. لكن الذي منع ذلك هو انه تلك الوضعية ستورط طرفا لا يريد المنطق السياسي توريطه.

وبناء على كل ذلك، فإنه من المؤكد ان واضعي الموضوع لم تقدهم إليه مفاهيم وقيم وإنما ما قادهم إليه هو توريط طرف والسكوت على آخر، وهو منطق سياسي بامتياز.

في حين انه لو كان العقل البيداغوجي هو الذي يشتغل، فإنه سيكون على وعي بان إشكالية الموضوع تغطي تلك العلاقة الاشكالية بين ظروف العمل ومضمونه: هل ظروف العمل السيئة تدفعنا إلى الإساءة للعمل، أم قيم العمل الراقية يجب أن تبتدع آليات تحسين ظروفه؟!

لو كان ذلك العقل المفهومي الفلسفي العميق هو بوصلة لجنة الامتحان، لما كان الموضوع بذلك الضعف المنطقي والتسطيح السياسي.

أرض البيداغوجيا هي التفكير وساحات السياسة هي التلفيق، لذلك وإن غرقت البلاد في الهرطقة السياسية فأنقذوا البيداغوجيا من تلك الايديولوجيا، ربما ظفرنا بمستقبل يفكر وينتقم لنا عن عقل الحاضر المعطّل عن العمل.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات