أحداث منوبة وتعبيرات ما بعد التخلّف

Photo

كان من المبرمج أن أكون أحد المشاركين في ندوة ”الإسلام السياسي في تونس بين المرجعيّة الإخوانية والخصوصية التونسية“، بمداخلة عنوانها: ”تعبيرات الإسلام السياسي في تونس: التيّارات السائلة“. وقد أصرّ القائمون على وحدة البحث ”الظاهرة الدينيّة في تونس“ بكلية الآداب والفنون والإنسانيّات بمنوبة“، على مشاركتي رغم تواجدي خارج حدود الوطن لمواكبة نشاط علمي آخر، وتكفلّ الدكتور محمد الحاج سالم بتقديم المداخلة نيابة عني. وحرصت على ذلك من باب تشرّفي بالانضمام لكلّ محاولة جادّة لتملّك مفاهيمنا عن واقعنا وإنتاج مقولاتنا التفسيريّة حوله.

وقد حصل ما حصل من مهازل لا فائدة من استذكارها غير استحضار الألم والحنق اللذان يغزوان النفس حين التعبير عن فكرة بُذِل في سبيلها شقاء السير على صراط المناهج الأكاديمية الصارمة، ”فإذا بأفراد جهلة يجرونها على أرض الشارع وسط أناس لا يقلون عنهم غباء وحماقة“.

وعليه أعلّق على الحادثة من وجهة أخرى، وهي والأخطر في تقديري، وتتعلق بواقع إنتاج المعرفة في الجامعة التونسيّة وتخلّفها خاصّة في إنتاج معرفة علميّة حول الظاهرة الدينيّة. وهو ما اكتشفته من خلال إعدادي لرسالة ماجستير في علم الاجتماع حول ”تدبير الحقل الديني في تونس بين الواقع الاجتماعي والبناء الاستراتيجي“. حيث أوردت فيها الفصل التالي:

”لا ريب أنّ الاستناد إلى الممارسات المعرفيّة المتراكمة ونتائج الدراسات السابقة حول الموضوع محلّ الدرس، من الشروط التعييريّة للدراسات الجامعيّة الّتي ترنو لأن تجد لها مكانا بين رفوف الدراسات الأكاديميّة المعتمدة.

إلاّ أنّ الأمر يكتسي شيئاً من الصعوبة إذا ما تعلّق بما تناولته أقسام علم الاجتماع بالجامعة التونسيّة من دراسات ومقاربات سوسيولوجيّة للظاهرة الدينيّة.

ذلك أننّا نصطدم بضمور عدديّ لهذه الدراسات ضمن أقسام علم الاجتماع بالجامعة التونسيّة، مقارنة بحجم الظاهرة المدروسة وما تستلزمه من إلمام بمداخلها المتشعبة وبديناميات تحوّلاتها المتسارعة. ويعزى هذا النقص العدديّ المذكور للسياقات السياسيّة الّتي أثرت بشكل واضح على وضع الحرّيات الأكاديميّة في الجامعة التونسيّة وخاصّة في أقسام علم الاجتماع.

وهو ما ولّد انقطاعات مستمرّة في التناول العلمي السوسيولوجي للظاهرة الدينيّة في تونس. مع ذلك فإنّ إرهاصات التأسيس لعلم اجتماع الدين أو التديّن في تونس أنتجت بحوثًا نوعيّة، منذ الكتبات الأولى لـ عبد القادر الزغل ولـ عبد الباقي الهرماسي، الّذي ساهم من خلال اشرافه الجامعي، في بدايات تشكلّ دراسات ميدانيّة معتنيّة بالظاهرة الإسلاميّة خاصّة مع البحوث الجامعيّة الّتي تلت موجة الاعتقالات للمنتسبين لتيارات الإسلام السياسي وخاصّة حركة النهضة في بداية التسعينات.

ومن أهم الدراسات السوسيولوجيّة المُنتجة خلال لحظات التأسيس الأولى للعلم اجتماع الدين في الجامعة التونسيّة، نذكر المذكّرتان العلميّتان لـ عبد القادر الجليدي، حول ظاهرة الاحياء الديني في الملاسين، و في الظاهرة الدينيّة بالتجمّعات القرويّة بجزيرة جربة.

ونخصّ بالذكر المشروع الفكري المتواصل لـ عبد اللطيف الهرماسي، وهو المشروع الّذي نحاول أن ننضوي تحت جملة من مقولاته النظريّة والمنهجيّة. مثل ما يقترحه من ”بنائيّة معدّلة“ في مقاربة الظاهرة الدينيّة، واعتماده ”الايمان المنهجي“ بدلاُ عن ”الإلحاد المنهجي“ الّذي ميّز أهم مقاربات الظاهرة الدينيّة في أقسام الحضارة بالجامعة التونسيّة وخاصّة ما يمكن أن نسميه ”مدرسة عبد المجيد الشرفي“.
ورغم استفادتنا الكبيرة من هذه الدراسات، إلاّ أنه يمكن القول بتجوّز أنّ هذه الدراسة هي أقرب للموجة الجديدة من الدراسات السوسيولوجيّة المعتنية بالظاهرة الدينيّة، والّتي ظهرت بُعيْد الحراك الاجتماعي في تونس 2011.

ومردّ ذلك ثلاثة أسباب نذكرها:

- ظهور تعبيرات تدينيّة جديدة مُلْتبسة بظواهر عنيفة، ولها قدرة كبيرة على الانتشار. كما أنّها حادثة على المجتمع التونسي وتتميّز بسمات خاصّة غير متشابهة مع التعبيرات الّتي تمّ تناولها في الدراسات الأولى.

-الواقع الأرحب للحريات الأكاديميّة الّذي ساهم في تغيير مناهج البحث السوسيولوجيّة المعتمدة في مقاربة الظاهرة الدينيّة، حيث برز الاتجاه نحو تكامل البحوث الكميّة والكيفيّة، بعد ما كانت الأخيرة هي الطاغيّة في الدراسات السابقة. وربما لم يُنجز أيّ مسح أو سبر أراء -لأغراض علميّة- حول الظاهرة الدينيّة في تونس قبل 2011.

- بروز مراكز البحوث والدراسات الّتي تعتمد العمل الجماعي ضمن فرق بحثيّة، وتسهل عمل الباحث من خلال ما توفّره من امكانيات ماديّة وبشريّة“ -انتهى-.

وعلى هذا أشرّع لنفسي -ما دام الكلّ يشرّع- بأن أقول أننّا تجاوزنا مرحلة التخلّف عن المضمار البحثي والأكاديمي والّذي كنّا نعزي أنفسنا بأنه من فعل الدكتاتوريّة فينا، ووصلنا إلى مرحلة ما بعد التخلّف الّتي تتجلّى أبرز مقولاتها في بيان النقابة الأساسيّة لأساتذة كليّة الآداب بمنوبة.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات