ثماني سنوات بعد الثورة: ما الذي تحقّق؟ وما الذي تعطّل ؟

Photo

تحيي بلادنا اليوم الاثنين الذكرى الثامنة لحدث الثورة، والذي يتزامن مع يوم 14 جانفي حينما شهد ذلك اليوم سنة 2011، سقوط نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ودخول البلاد في مرحلة تاريخية وحضارية وسياسية جديدة اختارت فيها السير في اتجاه تحقيق الحريّة والانتقال الديمقراطي، على المستوى السياسي، والاستجابة لاستحقاقات الشعب الاجتماعية والاقتصادية والتي عكسها شعار المطالبة بالكرامة.

عرفت بلادنا، إذن، على مدار السنوات الثمانية الماضية محطّات ومستجدّات كثيرة، ما تزال القراءات متباينة حول تقييم حصادها النهائي نتيجة تواصل المسار الثوري ان صحّ التعبير، ونتيجة مظاهر عجز كبيرة مسَّت قطاعات حياتية عديدة منعت الى حدّ الآن من تلمّس تَغيُّرات جوهرية في المعيش اليومي للمواطنين وفي تحسين ظروف التنمية والتشغيل في مختلف الجهات المحرومة والنائية، ما ملاحظة تَغيُّرات مجتمعيّة لافتة ليس اقلّها ارتفاع منسوب الجريمة وايضا الفوضى التي يعيشها المجتمع في أكثر من ميدان.

كيف يُمكن قراءة مسار ثماني سنوات من الثورة؟ هل كانت سلبية كاملة ليس فيها ملامح لمكاسب إيجابية أم انّها تتقدّم في طريق تحقيق الاستحقاقات التي خرج الشعب من أجلها وأسقط نظام بن علي؟

1- الحريّة والتداول السلمي على السلطة:

هناك إقرار واسع بأنّ الثورة قد منحت التونسيّين مكسب الحريّة بما فيه من حرية للتعبير والصحافة والاعلام والتنظّم السياسي والحزبي والجمعياتي، وهذا ما انعكس على صورة المشهد السياسي الذي بات تعدديا الى درجة الإغراق حيث يتجاوز عدد الأحزاب حاليا الـ 220 حزبا، بالاضافة الى المنسوب العالي من حرية التعبير والذي بلغ أيضا درجة من الابتذال وغياب المسؤولية بمراهنة البعض على الإثارة واستغلال هامش الحريّة الجديد للسب والثلب وهتك الأعراض ونشر الإشاعات والأكاذيب.

لقد ساد اعتقاد لدى قطاعات واسعة من التونسيّين على أنّ الحريّة المطلقة هي البديل الطبيعي والآلي للحريّة المقيدة التي كانت سائدة قبل الثورة زمن الاستبداد والتسلّط.

ولكن على الرغم من ذلك، فالحرية حتى وان كانت منفلتة افضل من غيابها، ولا شك في أنّ المجتمع ونخبته السياسية ايضا هي اليوم بصدد تجريب كل هذا التعدد الذي بلغ درجة التشتّت وهذه الحريّة الى الحد الذي سيقف فيه الجميع على خطورة مثل هذه الانفلاتات وجعلها تتراجع لاحقا لفائدة حرية مسؤولة تراعي الواجبات قبل المطالبة بالحقوق.

يعيش المجتمع التونسي اليوم في تعدديّة فكرية وسياسية وتنظيمية واسعة، وقد ساهم مجهود النخبة في معالجة معضلة السلطة في توفير نجاح سياسي باهر أطلق عليه النموذج التونسي في الانتقال الديمقراطي، فقد تمّ التوافق الواسع مباشرة اثر الثورة الو تحكيم الارادة الشعبية وصناديق الاقتراع طريقا للحكم والوصول للسلطة، وأجريت عدة انتخابات عامة، تأسيسية وتشريعية ورئاسية وبلدية، في إطار قدر مهم من الشفافيّة تحت إشراف هيئة مستقلة، وهي تستعد نهاية العام الحالي لتنظيم انتخابات اخرى ستكرس بصفة نهائية مبدأ التداول السلمي على السلطة بعيدا عن غير من خيارات العنف والصراع الدموي او الاجندات الانقلابية سواء كانت عسكرية او غيرها.

2- الدستور الجديد:

مثل دستور الثورة الذي صادق عليه المجلس الوطني التأسيسي يوم 27 جانفي 2014، حدثا فارقا في مسار الثورة والانتقال الديمقراطي في تونس، فقد كان دستورا توافقيا اجمعت عليه النخبة التونسيّة بمختلف قواها الفكريّة والسياسيّة والحزبيّة وتياراتها.

هو دستور جامع من حيث أنّه حسم العديد من المسائل الخلافيّة وخاصة تلك التي كانت منبتا للخصومات والنزاعات الايديولوجيّة، فقد كان الدستور واضحا في إنهاء الصراع حول الهويّة ونقل البلاد الى أفق الانطلاق في بناء الجمهورية الثانية ودولة القانون والمؤسسات.

كما أنْ هذا الدستور فصل في مسألة النظام السياسي وأقر مبدأ توزيع السلطات مركزيا وجهويّا ومحليا، وهذا مكسب قطع الطريق أمام أية فرصة لإعادة النظام السياسي الرئاسوي الذي عادة ما يكون مدخلا للهيمنة والاستبداد والتسلّط.

ولكنّه دستوري سيبقى في حاجة إلى مزيد التطوير والتعديل في فترات قادمة بناء على ضوء ما سيتم الوقوف عليه من هنات او نقاط ضعف بغاية مزيد تعزيز فاعليته وتأمين سلامة تسيير شؤون الدولة وأيضا تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع ثمار الثروة الوطنية وتوفير التنمية والتشغيل والمساواة بين كل التونسيّين بجميع فئاتهم وفي كل جهات البلاد.

3- مصالحات وعدالة انتقالية:

خلال الثماني سنوات اختارت بلادنا نهج المصالحات ورفضت الانخراط في مناهج الإقصاء والاستبعاد، وكانت الحوارات الوطنية بابا مهما لتحقيق تسويات مهمة جدا بين مختلف التيارات السياسية والفكرية، بما فتح الطريق أمام الجميع للمشاركة في الشأن العام والاستفادة من واقع الحريّة الجديد.

ولكن ما يُمكن ملاحظته، على الرغم ممّا تحقق، أنّ مسار العدالة الانتقالية لم يصل الى منتهاه وشهد العديد من التعثرات بما عطّل هدف الوصول الى المصالحة الوطنية الشاملة وطي نهائي لملفات الماضي، ولكن هناك من الإرادات ما سيجعل بالإمكان استكمال مسار العدالة الانتقالية بما يُمكن من تجاوز إرث الماضي بكشف منظومات الاستبداد والانتهاكات المختلفة ومنح الحقوق لأصحابها واسترداد مناعة الدولة في حماية الشعب دون تمييز وبمساواة كاملة على قاعدة المواطنة وإنفاذ القانون.

4- تنمية منقوصة وإنهاك للمقدرة الشرائيّة:

برغم الحيوية والديناميكية التي احدثتها الثورة في البلاد، فإنّ الحكومات المتتالية، والى الرغم من أنّها منتخبة، لم تتمكّن من تنفيذ خطط اصلاحية كبرى تُسهم في تطوير امكانات الدولة وتحسين ظروف عيش المواطنين، ممّا ضاعف من المصاعب على المالية العموميّة وايضا القدرة الشرائيّة للمواطنين وادخل البلاد في نفق من الانحدار السلبي المالي والاقتصادي لم يحقق استحقاقات الناس في العيش الكريم وتوفير التنمية والتشغيل والبنية الاساسية اللازمة على مستوى الخدمات وغيرها من المرافق العموميّة.

وهذا الواقع الاقتصادي والاجتماعي الصعب والمتدهور، لا يحتاج الى الكثير من الأدلة، فجل المؤشرات سلبية، إن لم نقل انها قاتمة، وهذا ما دفع بتكثّف لمشاعر اليأس والاحباط والحيرة لدى قطاعات واسعة من المجتمع الذين باتوا يشعرون بشكل كبير بغياب منجز فعلي للثورة.

5- تأثير الصراعات الايديولوجية ومنطق تصفية الحسابات:

على الرغم من مرور ثماني سنوات من الثورة، ما تزال الحياة الوطنية تعيش على وقع ممارسة سياسية هجينة فيها انقياد غريب للصراعات الايديولوجيّة ومنطق تصفية الحسابات، وهذا السلوك الهجين ما يزال يُعيق البلاد عن تحقيق التقدّم المطلوب، فكل الحكومات عرفت تعطيلات وضغوطات استعملت فيها كل الأساليب والأدوات للتشويش والقَدْح، ممّا دفع البلاد مرات عديدة للوقوع في مطب أزمات خانقة زادت في تعطيل فرص التنمية وتحسين ظروف البلاد.

فجزء من النخبة السياسيّة، ما يزال يعمل على تحريك أصناف من الأحقاد ونوايا تصفية الحسابات الضيّقة والفئويّة، وهذا امر على غاية من الخطورة بالنظر لما يحدثه من ارباك للوضع العام ومحاولات لتوجيه الأحداث والركوب عليها بغاية توظيفها سياسيا وأيديولوجيا.

6- المحصّلة:

بالمعنى التاريخي والحضاري بلادنا حققت منجازا لافتا في سياق فك شفرة السلطة والاتجاه نحو الحريّة والبناء الديمقراطي والدولة المدنيّة، وهذا مهم في سياق التحوّلات الكبرى للمجتمعات والدول والشعوب فثماني سنوات لا تعني الكثير في تاريخها، ولكن بالمعنى الحيني، اي القراءة في ارتباط بالمعيش اليومي اقتصاديا واجتماعيا وتنمويا، فإنّ المنجزات والمكاسب قليلة جدا.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات